الآليات والمؤشرات الحديثة للتدبير المالي المحلي
الفرع الأول : محددات تفعيل التدبير المالي للجماعة المقاولة
سعيا لتحقيق الدور التنموي المخول للجماعات الحضرية و القروية، عمل المشرع على تمكين هذه الأخيرة من الوسائل المالية والمادية الكفيلة بذلك، منذ ظهير22 مارس 1962 الخاص بالجبايات المحلية، إلى قانون 47.06 الذي دخل حيز التطبيق مع بداية السنة المالية 2008. وعموما فقد عرفت المالية المحلية تحسنا ملموسا لبعض الجماعات الحضرية والقروية، وأصبحت ميزانياتها تعادل أو تفوق بعض ميزانيات القطاعات الوزارية، في حين، يبقى الطابع المشترك الذي تتسم به مالية الجماعات الحضرية والقرويةعلى العموم، هو طابع الضعف من جهة، وسوء التسيير من جهة أخرى.
وتأسيسا عليه، فإن التحدي الذي تعرفه المالية المحلية مرتبط أساسا بعاملين أساسيين: الأول يخص تدعيم نسبة استقلالية ميزانية الجماعات المحلية عن إمدادات الدولة، والثاني يتعلق بتقليص مصاريف التسيير التي تهيمن على الميزانيات المحلية، والتي لا تترك هامشا كبيرا للاستثمار والتدخل الاقتصادي. ومن هذا المنطلق، فإن شرعية الجماعة المقاولة ترتبط بشكل كبير بضبط الموارد، وتحكمها في قواعد التدبير المالي المحلي، من أجل استثمارها، ومبرر ذلك أن ميزانيات الجماعات المحلية حسب إحصائيات 2007 قدرت ب600 مليار سنتيم ، هذه الأموال تحتاج إذن إلى رئيس جماعة بصفة المقاول الحريص على نجاح مقاولته.
لهذا الاعتبار، فالممارسة المالية للجماعة، يجب أن تحركها مجموعة من المؤشرات والضوابط المحددة لمعالم التدبير المقاولاتي من جهة، كما يجب أن تحكمها مجموعة من الآليات الرقابة والأدوات العملية من أجل تفعيل ممارسة التدبير المالي المقاولاتي من جهة أخرى.
الفقرة الأولى: ربط التدبير المالي بقاعدة «la règle des trois E »
أصبحت الجماعات المحلية مطالبة بإدخال تقنيات التدبير المقاولاتي، نظرا لمحدودية الموارد المالية في ظل محيط يتسم بأزمة اقتصادية ، من هنا تعتبر قاعدة«la règle des trois E » : الاقتصاد /الفعالية / النجاعة، المحرك الرئيسي للممارسة المالية في الجماعات المحلية الكندية .
وما دام أن، الاقتصاد يعتبر في الفكر الكلاسيكي الحديث، ذلك العلم الذي يدرس كيفية الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية، المحددة نسبيا لإنتاج السلع والخدمات، لإشباع حاجات الأفراد والمجتمع، فهو بذلك يلتقي مع خطاب الجماعة المقاولة التي تلتقي أيضا بشكل كبير مع التحليل النسقي "لدافيد ايستون"، أي أن هذه الأخيرة عبارة عن مدخلات (الوسائل المادية، البشرية..) التي يتم تحويلها إلى مخرجات (أي إنجازات) وعلاقتها مع المحيط ، فمبدأ الاقتصادl économie ، يحلل إذن الطريقة التي يتم بها استخدام وتسيير الوسائل المالية، وبالتالي فإن هذا الأخير يلتقي مع كنه وجوهر التدبير المالي ( التخطيط، التنظيم، التقييم، المراقبة). هذا المبدأ يحيلنا على مبدأ آخر لا يقل أهمية عنه، وهو مبدأ الفعاليةl éfficacité التي تعني إمكانية تحقيق الهدف والوصول إلي النتائج التي تم تحديدها مسبقا ، وأن الهدف عبارة عن نقطة نهاية (أو نتيجة) يراد الوصول إليها في وقت محدد، بمواصفات معينة، لذلك يجب أن تكون الأهداف محددة بشكل دقيق وواضح لكي تتمكن المؤسسة من تحقيقها.
فمؤشر الفعالية يحلل مدى ملاءمة الأهداف المختارة، ومدى النجاح في تحقيق هذه الأهداف. وبناء على ذلك، فإن الفعالية في التدبير المالي أصبحت تقوم على ثقافة النتائج. ومن هنا، فإن تزايد الاهتمام بالفعالية في المنظمات بشكل عام، يعتبر جوهر عملية التسيير، ومظهر من مظاهر المنافسة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. ويطرح هذا الاهتمام بشكل مستمر، نظرا لتزايد وعي المسيرين بسبب الزيادة الشديدة في المنافسة الدولية والصراع من أجل البقاء. أما فيما يخص مؤشر النجاعةéfficience l التي تعني الوصول إلى تحقيق الأهداف المسطرة بأقل تكلفة، فهذا المؤشر يدل على الإنتاجية، إذ يترجم علاقة الوسائل/التكلفة ودرجة التلاؤم بينهما.
وإذا كانت نظرية "les trois E" هي من إنتاج الفقه الكندي ، إلا أنها عرفت انتشارا واسعا في باقي الدول التي تعتنق المذهب الأنكلوساكسوني، وحتى الدول الفرنكوفونية كفرنسا، التي بدأت جماعاتها المحلية تتبنى معايير نجاح الجماعة المقاولة انطلاقا من هذه النظرية، التي تحتاج إلى مدبربلديgérant municipal يتقن فن التدبير ويكون على دراية واسعة بعلوم الاقتصاد والتسيير والمالية، لكون هذه النظرية محدد لتعامل مع الموارد كيفما كان حجمها. وهكذا فإن إخضاع التدبير المالي لمؤشرات الاقتصاد /الفعالية/ النجاعة سيعود لا محالة بالفائدة الأكيدة على نمو الجماعة ككل. وفي المقابل، لكي ينضبط التدبير المالي المحلي المقاولاتي، لابد من الاستعانة بمجموعة من الأدوات والآليات، التي تشكل ترابطا يسعى إلى تأطير الممارسة المالية.
الفقرة الثانية: الأدوات والآليات المصاحبة للتدبير المالي للجماعة المقاولة
لقد أصبح التدبير الجماعي في الدول المتقدمة يقوم على الاحترافية، من قبيل الوظائف الجديدة التي ظهرت مع الهيكل التنظيميorganigramme، مثل التدقيق الداخلي، ومراقبة التسيير... وغيرها من الآليات التي تجعل من الجماعة مقاولة بامتياز.
ومن بين الإجراءات المصاحبة التي تكفل تدبيرا ماليا سليما من منظور مقاولاتي فعال، وضع محددات لمراقبة داخلية من أجل تتبع وتقييم العمل المحلي ككل، من حيث معرفة مظاهر القوة لتعزيزها، وكذا مظاهر الضعف لتجاوزها . وفي هذا الإطار، فإن هناك العديد من الآليات الحديثة التي تسمح بالتحكم في عملية التدبير المالي المحلي. كمراقبة التسيير (Le contrôle de gestion)، التي تعتبر آلية رقابية حديثة تتوخى تقييم وتقويم مناهج التسيير داخل المنظمات، بواسطة اقتراح الإجراءات التصحيحية على المسؤولين، قصد تحقيق الأهداف المعلنة، وهو ما يجعل منها مراقبة مندمجة في التسيير وليست خارجة عنه .
وتكتسي مراقبة التسيير أهمية بالغة في التدبير، لكونها مبادرة داخلية أي أن الجماعات المحلية لها سلطة القرار في الاستعانة بها في تحديث وسائل عملها، نظرا للمزايا الكثيرة التي تقدمها مراقبة التسيير للرفع من جودة أداء الجماعات المحلية. فقد كانت ضمن اهتمامات أشغال المناظرة الوطنية السابعة للجماعات المحلية ، وهو ما يعكس حرص المسؤولين على تدبير الشأن العام المحلي على توفير تقنيات نوعية تمكن من دعم جوانب الفعالية والمردودية، عن طريق توقع أخطار التسيير أوتقويمها في حالة وقوعها، دون أن يحكمها في ذلك هاجس الزجر وإنزال العقوبة .
فمراقبة التسيير هي تلك العملية التي تسمح بالتأكد من استعمال الموارد المالية والبشرية للمؤسسة استعمالا عقلانيا وفعالا، وكذلك تدارك الانحرافات الغير المسموح بها من أجل تحقيق الأهداف، وذلك باستخدام مختلف التقنيات والوسائل الكمية والكيفية، وبالتالي فدورها هو إعطاء المسؤولين داخل المؤسسة الوسائل لقيادتها، واتخاد القرارات، وكذا ضمان مستقبلها . وفي هذا السياق، فخطاب الجماعة المقاولة يتمفصل مع هذه الآلية، التي تمكن من معرفة مظاهر القصور والانحرافات داخل الجماعة المحلية، وكذا تمكن من قياس الفوارق بين النتائج المحصل عليها وتلك المنتظرة، ومقارنة الوسائل بالأهداف. وإجمالا يمكن القول، بأن مراقبة التسيير آلية مهمة للرقي بالعمل الداخلي للجماعات المحلية إلى مستوى التدبير المقاولاتي، وبالتالي الحصول على نتائج جد مرضية تعكس بدورها تحسن وضعية الجماعة المحلية والسكان معا .
وتعتمد مراقبة التسيير على بعض الأدوات الموازية لتحقيق أهدافها، ومن بينها على وجه الخصوص المحاسبة التحليلية "la comptabilité analytique"، ولوحة القيادة "Le tableau de bord"، بالنسبة للأداة الأولى (المحاسبة التحليلية) فهي تمكن من تجميع وتحليل بيانات التكاليف وتوزيع المصروفات، من أجل تحديد ثمن تكلفة المنتجات أو الخدمات، وتقديم معلومات دقيقة إلى إدارة المؤسسة .
إن دور الجماعة المقاولة، لايستقيم إلا بتبني أداة المحاسبة التحليلية، لأن من شأن تطبيقها والاستعانة بها تسهيل مأمورية الأدوار الجديدة التي نريدها لجماعاتنا بالمغرب، نظرا للايجابيات التي تقدمها، ابتداء من معرفة تكاليف ووظائف المؤسسة، وتحديد سعر تكلفة المنتجات والخدمات، ووصولا إلى اتخاذ القرارات الصائبة. فهذه الإجراءات تمكن في تحقيق المصلحة العامة في أدق وأجود صورهامن جهة، ومن جهة أخرى تعمل على تخليق الحياة العامة المحلية وترشيد النفقات العمومية .
كما تتجلى أهمية المحاسبة التحليلية في مجال التدبير المحلي، في التطور الذي انتقل بالجماعة من الإطار الإداري إلى الإطار الاقتصادي، الذي ساهم إلى حد كبير في إنعاش التنمية المحلية، فمن أجل خوض غمار المنافسة والاضطلاع بدور الجماعة المقاولة .
وعموما يمكن القول، إنه ما من شك يحوم حول أهمية المحاسبة التحليلية، ولأجل ذلك، تستدعي وتتطلب منتخبا محليا واعيا ومدركا لأهميتها ، وبالأخص رئيس المجلس الجماعي، بمواصفات المدبر والقادر على الاستعانة بهذه التقنية، من أجل الرفع من القدرات التدبيرية والتنافسية للجماعة المقاولة، من حيث معرفة تكلفة تدخلاتها الاقتصادية، وسعر تلك التدخلات وقيمتها، ووصولا إلى نتائج معينة يمكن أن تبني عليها باقي القرارات اللاحقة.
وإلى جانب المحاسبة التحليلية، نجد تقنية مماثلة لا تقل أهمية عنها، وهي لوحة القيادة (Le tableau de bord)، التي تسمح بمتابعة المنجزات وتزويد المسؤول أوصاحب القرار بمجموعة من المعلومات، تساعده في مهامه المتمثلة في تأمين التطابق الفعلي بين الإنجازات والأهداف المحددة سلفا . وبذلك، فإن لوحة القيادة هي أداة ﻹنتقاء الإجراءات التصحيحية، عبر الكشف عن الفوارق القابلة للقياس، والتحكم في الكلفة ومتابعة النشاط المنجز، وتكييف الوسائل مع الأهداف، والبحث كذلك عن استعمال القدرات الغير الموظفة والتنسيق بين المصالح. أي أنها عبارة عن نظام للمعلومات، يمكن بواسطته التعرف بشكل مستمر وفي وقت وجيز على المعطيات الضرورية لتتبع السير الجيد أو السيء على المدى القصير للمؤسسة . وإجمالا يمكن القول، بأن الآليات التدبيرية الحديثة لم تعد حكرا على القطاع الخاص، بل إن نجاحها كان دافعا ومحفزا لإدخالها إلى القطاع العمومي، وبفضل ذلك لم يعد هناك حدود بين ما هو عام وخاص ، بحيث تسعف في تجاوز بعض الإشكاليات التي يطرحها التسيير الداخلي.
وبالإضافة إلى مراقبة التسيير، هناك آلية أخرى لا تقل أهمية عنها هي آلية التدقيق الداخلي، الذي تعتبر من الركائز الأساسية للتدبير العمومي المحلي، تتأكد ايجابياتها من خلال تحكمها في الجوانب المالية والمحاسبية أو التنظيمية للجماعة المقاولة. وبناء عليه، فإن هذه التقنية تمكن الجماعة المقاولة على وجه الخصوص في :
التحكم في المخاطر، من خلال تقديم معلومات شفافة وملائمة وفي الوقت المناسب؛
ضمان سلامة الأموال المادية (الممتلكات العقارية، المنقولات)، وغير المادية (كالموارد البشرية)؛
ضمان احترام التعليمات، ويتعلق الأمر في نفس الوقت بالمعايير والأنظمة المتأتية من الخارج (قوانين، مراسيم، دوريات..)، والتوجيهات السياسية المقدمة من قبل المنتخبين، أو برامج العمل المطبقة من قبل السلطة الإدارية التسلسلية؛
تحفيز المراقبة الخارجية؛
تثمين الموارد.
وإلى جانب هذه الفوائد، فإن من مزايا التدقيق الداخلي كذلك، تسهيل المهام على أجهزة الرقابة الخارجية، وخاصة المجالس الجهوية للحسابات في حالة الرقابة القضائية، والمفتشية العامة للمالية في حالة المراقبة الإدارية، حيث كان من الأفيد إيجاد مخاطب لهذه الوحدات داخل الجماعات المحلية تقوم بتزويدها بالمعلومات المطلوبة في نطاق اختصاصاتها .
واجمالا، فإن محددات تفعيل التدبير المالي بالجماعة المقاولة يقتضي تبني مؤشرات الاقتصاد والفعالية والنجاعة، التي تتفاعل وتتناغم لتجويد التدبير في الجماعة المحلية على نهج المقاولة الخاصة، كما تشكل الأدوات التدبيرية الحديثة (مراقبة التسيير، التدقيق الداخلي) تكاملا تلاقحيا مع قاعدة "les trois E"، وكلها ضوابط داخلية تعزز بها الجماعة المحلية المراقبة الداخلية على ذاتها، لأجل ذلك فعلى جماعاتنا المحلية لا سيما الحضرية والقروية الاهتداء إلى هذه الضوابط على غرار ما هو معمول به في الجماعات الفرنسية وغيرها من الدول المتقدمة .
الفرع الثاني: تطوير أنظمة المراقبة على مالية الجماعة المقاولة
إن طرح التدبير المقاولاتي لا يتنافى مع فرض نظام رقابي، والذي من شأنه تعزيز خطاب الجماعة المقاولة. فهذه الأخيرة، تتمفصل مع الآليات والأدوات الرقابية الحديثة، سواء تلك التي تعتمدها داخليا أو تلك التي تطبق عليها من طرف المؤسسات الخارجية.
الفقرة الأولى: أهمية المراقبة الداخلية بالنسبة للجماعة المقاولة
تكتسي المراقبة الداخلية أهمية بالغة في حياة المنظمات، ذلك أن وجود نظام للمراقبة الداخلية يعتبر أحد المقومات الرئيسية لفعالية منظومة الراقبة المالية، وتكمن فائدتها سواء بالنسبة للأجهزة موضوع المراقبة أو بالنسبة للأجهزة المراقبة.
واعتماد نظام المراقبة الداخلية بالنسبة للجماعات المحلية وهيئاتها ومؤسساتها العمومية، يدخل في إطار التحكم في محيط أصبح أكثر تعقيدا، ومن استغلال الموارد المالية التي أصبحت أكثر ندرة، والاستغلال الأمثل . ويمكن اعتبار المراقبة الداخلية في الجماعات المحلية، بأنها "مجموع الضمانات التي تساهم في التحكم في تسيير الجماعة، وتهدف من جهة، إلى الحفاظ وحماية الممتلكات وقيمة المعلومات المقدمة، ومن جهة أخرى، ضمان تطبيق توجهات الإدارة من أجل تطوير مستويات الأداء" .
فالمراقبة الداخلية عبارة عن منهجية للعمل، إذ تركز على المساطر المتبعة من أجل اتخاذ قرار معين، وبواسطتها يتم تحليل الأخطار المرتبطة بتسيير الجماعة المقاولة، وقد كانت مطلبا أجمع عليه المشاركين في أشغال المناظرة الوطنية السابعة للجماعات المحلية، وذلك بإحداث مصالح على مستوى الإدارة الجماعية تتولى المراقبة الذاتية، والتدقيق في الحسابات، وإعداد تقارير حول التدبير المالي للجماعة، تعرض بشكل دوري على أنظار الرئيس والهيئة التداولية .
وحتى يمكن لمصلحة المراقبة الداخلية من القيام بدورها على أكمل وجه، لابد من مراعاة بعض الاعتبارات التي حددهاSerge Barichar :
التموقع على مستوى البنية الإدارية للجماعة: فالمصلحة أو الخلية التي ستتكلف بالمراقبة الداخلية، يجب أن تحتل موقعا إداريا أعلى، يمكنها من العمل باستقلالية عن المصالح الإدارية والتقنية المسؤولة عن إنجاز مختلف أنشطة الجماعة، كما يمكنها ذلك من التدخل أفقيا، وهو ما يعتبر شرطا أساسيا لنجاعتها؛
اعتماد نهج استباقي، فتدخل المراقبة الداخلية يكون مقبولا ودو فاعلية أكبر، كلما تم في بداية مسلسل إعداد القرار أو إنجاز المشروع، فاقتصار المراقبة الداخلية على مهام بسيطة للمراقبة والتحقق دون اهتمام مباشر بالتدبير والتسيير، يكون من نتائجه تهميش هذه المراقبة أو إضعاف تأثيرها على الأقل؛
القبول بالمراقبة الداخلية والاعتراف بأهميتها من جانب المسؤولين عن المصالح التقنية والإدارية، ولتحقيق هذا الشرط الأساسي لنجاح المراقبة الداخلية، يجب أن تكون المساطر مكتوبة ومحددة بشكل واضح، والمسؤوليات معروفة بدقة؛
انفتاح مصالح المراقبة الداخلية على هيئات الاستشارة والتدقيق الخارجية، خاصة في مجال الخبرة القانونية والتدقيق المالي المحاسبي، أوالتحاور والتشاور مع أجهزة المراقبة الخارجية، من مجالس جهوية للحسابات، وأجهزة تفتيش وسلطة الوصاية.
فمن خلال ما سبق، يتضح مدى أهمية نظام المراقبة الداخلية، ولأجل ذلك فإن الجماعة المقاولة لابد أن تدرج ضمن مصالحها خلية للقيام بذلك، حتى تحقيق تدبير مقاولاتي في شموليته.
الفقرة الثانية: تطوير آليات وتقنيات الرقابة اللاحقة على مالية الجماعة المقاولة
على الرغم من كون الميثاق الجماعي لسنة 2002، جاء لتكريس خطاب الجماعة المقاولة، وهو ما تمت ترجمته في مجموعة من الاختصاصات التي أصبحت مناطة بالجماعات الحضرية والقروية. لكنه في المقابل حافظ على الطابع المميز للرقابة على المالية المحلية، بثقله على كل الاختصاصات ذات الطابع المالي .
في هذا الشأن نعتبر أن التطور الذي عرفته اللامركزية الإدارية، لم يواكبه تطور في اللامركزية المالية، فمازالت الرقابة الممارسة على المالية المحلية بكل أنواعها (رقابة سياسية/إدارية/قضائية)، ومراحلها (سابقة/مزامنة/لاحقة)، تؤطر الممارسة المالية في الجماعات الحضرية والقروية، في حين أن خطاب الجماعة المقاولة لا يتماشى مع الواقع الذي تفرضه الوصاية على مالية الجماعات الحضرية والقروية.
وبناء على ذلك، فإن واقع الحديث عن الجماعة المقاولة، ينسجم مع التخفيف من الرقابة السابقة وتعزيز الرقابة اللاحقة، التي تذهب إلى حد البحث والكشف عن مدى ملاءمة هذه المعاملات والإستراتيجية المالية والاقتصادية المرسومة عند إعداد الميزانية الجماعية، وكذلك مدى كفاءة أو ضعف كل ميزانية في مجال التدبير المالي ، بغية تحسين التسيير المالي، إنطلاقا من حسن تدبير الموارد وعدم تبذيرها وانحرافها عن تحقيق المصلحة العامة .
وفي هذا الإطار، تعتبر الرقابة السياسية التي يمارسها المجلس في كليته، من خلال المناقشة والتصويت على قانونالحساب الإداري ، كأرضية مناسبة مبدئيا لإجراء الرقابة اللاحقة على المالية المحلية، فهذا النوع من الرقابة يجب أن يرقى في ممارسته إلى تجاوز الاعتبارات التقنية والحسابية للوثيقة، بالعمل على خلخلة تلك الأرقام والمعطيات بطريقة علمية ومنهجية، لاسيما من طرف الأقلية المعارضة في المجلس، لا أن توظف كورقة للضغط والابتزاز السياسي من طرف بعض الأعضاء في المجلس.
أما فيما يتعلق بالرقابة الإدارية والمالية البعدية، التي منها ما هو تابع لوزارة الداخلية، ومنها ما هو تابع لوزارة المالية، انطلاقا من الدور المسند إليهما في تتبع كيفية استعمال وصرف الأموال العمومية ، فرغم ما تقوم به من مجهودات، إلا أنها في الكثير من الأحيان في تدخلاتها تعمل على تكريس مبدأ التنافس السلبي، أي ليس هناك إنسجام وتنسيق في ممارستها العملية.
ونظرا لمحدودية الرقابة البعدية ( السياسية والإدارية) في تفعيل الراقبة على مالية الجماعات المحلية. في ظل هذا الواقع، فرضت الرقابة القضائية نفسها كرقابة خارجية صادرة عن جهاز مستقل، لضمان الموضوعية والشرعية القانونية. وتجسد ذلك في خلق المحاكم المالية بمقتضى قانون 99.62 المتعلق بمدونة المحاكم المالية .
فالمجلس الجهوي للحسابات يمارس رقابة قضائية من خلال البث والتدقيق في حسابات المحاسبين العموميين للجماعات المحلية وهيئاتها ، كما تتجلى مهمة هذا الأخير أيضا في مجال التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، بالإضافة إلى اختصاصه الإداري المتمثل في مراقبة التسيير للأجهزة الخاضعة للرقابة، من حيث الكيف والأداء، وتقديم الاقتراحات عند الاقتضاء حول الوسائل الكفيلة بتحسين طرق التسيير وفعالية مردوديته.
وفي نفس السياق، فالجماعات المحلية في الدول التي تعرف نظاما لامركزيا متقدما، تخضع لمجموعة من الآليات الرقابية الحديثة، من بينها تقنية الفحص والتدقيق، بحيث يعتبر الفحص والتدقيق من أنجع الآليات الرقابية الحديثة، لكونها رقابة خارجية أيضا ومحايدة، تسعى إلى تقييم حصيلة الأنشطة الصادرة عن الوحدة وكذا تقويم مسارها .
فكلمة التدقيق هي من أصل لاتيني، إلا أن السيرورة التاريخية تفيد بأن الإسهامات الأولى في هذا المجال يعود بالأساس للدول الأنكلوساكسونية، بينما لم تبرز بشكل جلي على صعيد التجارب اللاتينية لاسيما الفرنسية منها إلا في السنوات الأخيرة . فالاستعمال "الانجليزي" لكلمة "التدقيق" يفيد في مجال المحاسبة والتسيير المالي، ومعناه التحقق والمراقبة من خلال الملاحظة اليقظة والدقيقة، وبذلك فإن عملية الفحص والتدقيق تستند على نتائج المراقبة الداخلية، التي تقوم بها المنظمات سواء كانت عامة أو خاصة. فالتدقيق الذي تم نشره في الدول الأنكلوساكسونية من قبل المدققين الكنديين يعتمد بشكل موسع على التدقيق المعمول به في القطاع الخاص، وهو الذي تتبناه الجماعات المحلية على وجه الخصوص في مناطق "الكبيك"، مادامت الجماعات المحلية عبارة عن مقاولة تنتج خدمات يمكن تقييم مردوديتها .
ويبقى تطبيق الجماعات الحضرية والقروية لهذا النوع من الرقابة، ضرورة يقتضيها واقع التدبير في جماعاتنا المحلية ، باعتباره طريقة لتقويم المنجزات الجماعات المحلية، فمن خلاله يتم تحديد نقط القوة ونقط الضعف لهذه الجماعات ، إلا أن التكلفة الباهضة الثمن التي تطلبها المكاتب التي تقوم بالفحص والتدقيق، لم تشجع على إقامة رقابة مالية وطنية جدية وفعالة ، لهذا الاعتبار يمكن تطوير الرقابة التي يمارسها المجلس الجهوي للحسابات لاسيما تلك المتعلقة بمراقبة التسيير.
وهكذا نخلص بالقول، إلى أن فلسفة الجماعة المقاولة تتأسس على الأدوات والآليات الرقابية الحديثة، سواء كانت داخلية أو خارجية، والتي تشكل تكاملا مع بعضها البعض، ومنه فالمنتخب المحلي يجب عليه أن يستوعب ويدرك أهميتها بالنسبة لأي إستراتيجية يمكن أن يرسمها، وذلك بالسير على نهج ما هو معمول به في المقاولة الخاصة، ومن هنا تبرز قوته الإبداعية في تكييف هذه الأخيرة مع خصوصية المرفق الجماعي. وذلك بخلق مصلحة في الجماعة تهتم برسم وتتبع وتقييم وتقويم المسار التدبيري للمجلس الجماعي، تسهر عليها أطر متخصصة في ذلك، تساعد رئيس المجلس الجماعي على اتخاذ القرارات السليمة والملائمة مع تحقيق إستراتيجية التنمية الشمولية.
Post a Comment