مقدمة تاريخية : يعتبر الكثيرون من الكتاب الغربيون أن أوجست كونت هو الأب المؤسس لعلم الاجتماع متناسين في ذلك الرائد الحقيقي لهذا العلم و...
مقدمة تاريخية :
يعتبر الكثيرون من الكتاب الغربيون أن أوجست كونت هو الأب المؤسس لعلم الاجتماع متناسين في ذلك الرائد الحقيقي لهذا العلم وهو عبد الرحمن ابن خلدون إما عن عمد وإما نتيجة قصور في أن دراساته لم تلقى ما تستحقه من ذيوع وانتشار .
ولقد ولد أوجست كونت في مونتيليه بفرنسا عام (1798 – 1857) والتحق وهو في سن السادسة عشرة بمدرسة البولتكنيك أو مدرسة الفنون التطبيقية ولقد كانت أوسع المدارس شهرة وأكثرها تميزا في ذلك الوقت ونظرا لطبيعة الدراسة بهذه المدرسة فلقد كان الاهتمام الأساسي لمناهجها هو التركيز على دراسات الرياضة والطبيعة ولم يكن هناك تركيز يذكر على الدراسات الإنسانية بوجه عام .
وفي سن التاسعة عشرة عمل كونت سكرتيرا للكاتب الإشتراكي المعروف (سان سيمون) وكان ما زال طالبا بمدرسة الفنون التطبيقية ومع أن سان سيمون كان ينتمي إلى الأرستقراطية الفرنسية إلا أنه أصبح واحدا من أوائل مشاهير الإشتراكيين المثاليين وواحدا من المفكرين الاجتماعيين ولقد عمل كونت وسان سيمون معا منذ عام 1817م وحتى عام 1823م وكانت علاقتهما في عملهما وثيقة لدرجة أنه أصبح من الصعب معها التمييز بين إسهامات كل منهم ويتضح ذلك في عملهم المسمى " خطة العمليات اللازمة لإعادة تنظيم المجتمع " .
ولقد كانت حياة كونت سلسلة من الإحباطات والمعارك الشخصية الأمر الذي تزايدت معه عزلته الاجتماعية بصورة مستمرة حتى أنه أصيب بمرض عقلي جعله ينقطع عن محاضراته التي كان قد بدأ في إلقائها سنة 1826م في الفلسفة الوضعية مما دعاه إلى محاولة الانتحار غرقا في نهر السين ، ثم عاد ما بين سنة 1830 – 1843 إلى إلقاء محاضراته التي كان قد انقطع عنها وفيها قدم تصوراته للمعرفة والعلوم وحاول خلالها وضع أسس علمه الجديد والذي أطلق عليه في بادئ الأمر (الفيزياء الاجتماعية) ثم تجنبا لتكرار الاسم الذي سبقه إليه (كتيليه) سمى العلم الجديد باسم علم الاجتماع.
ويعد كونت مثله في ذلك مثل سبنسر من أنصار المدخل العضوي والذي أعطى اهتماما أساسيا إلى البناء الميكانيكي الآلي للكائن الاجتماعي حيث كان ينظر أصحاب هذا المدخل إلى المجتمع باعتباره نظاما متكاملا يؤدي كل عضو من أعضائه وظيفته من أجل استمرار الكل وأن هذا المجتمع جزء لا ينفصل عن النظام الوظيفي .
وجدير بالذكر أن النموذج العضوي في النظرية الاجتماعية أقدم أشكال النظرية الاجتماعية وثمة ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية أدت إلى ظهور وإرساء قواعد هذا النمط في النظرية الاجتماعية ، فالمبادئ الأساسية للنموذج العضوي دعى إليها جماعة من مفكري الطبقة العليا درسوا فلسفة عصر التنوير وآمنوا بها وتفاعلوا مع البيئة الاجتماعية وعاشوا أحداث الثورة السياسية والانهيار الاجتماعي والتطور والنزعة الطبيعية والتصورية الاجتماعية والإصلاح الاجتماعي وقدموا رؤية جديدة للمجتمع تركز على حاجات المجتمع المنظمة ويؤدي هذا المجتمع وظائفه وفق القوانين الطبيعية .
القضايا الأٍساسية التي عالجها أوجست كونت:
أولاً : علم الاجتماع : على الرغم من أن أوجست كونت هو الذي أعطى العلم الاسم المستخدم الآن إلا أنه قد كرس جهده للدعوة إلى العلم أكثر من اهتمامه بموضوع العلم ، فلقد كان كونت ينظر إلى العلوم على أنها إما عملية تطبيقية أو نظرية ، أو أنها علوم وضعية ملموسة وأخرى مجردة حيث تهتم الأولى بالظواهر الملموسة وتعالجها بينما الثانية تنشغل باكتشاف القوانين الطبيعية التي تحكم هذه الظواهر وتحدد وجودها وتتابعها . وتشكل العلوم النظرية المجردة سلسلة أو سلما تعتمد فيه كل حلقة عليا على الحلقات التي تسبقها ، وتحتل الرياضة قاعدة السلم لأنها تهتم بالجوانب المجردة لجميع الظواهر يليها في الترتيب الميكانيكا والتي خلط كونت بينها وبين الفلك ثم الفيزياء والكيمياء فالبيولوجيا وفوق كل ذلك يتربع العلم الجديد أو الفيزياء الاجتماعية أو علم الاجتماع .
لقد كان المناخ الذي يسيطر على فرنسا في أعقاب الثورة الفرنسية مهيئا لبلورة أفكار كونت ولقد ظهرت مشكلات إصلاح المجتمع وإعادة تنظيمه بعد الثورة الفرنسية ولقد كان من وجهة نظره أن الفوضى التي يعيش فيها المجتمع ليست راجعة فقط إلى أسباب سياسية بل هي كذلك راجعة إلى أسباب عقلية أو إلى طرق التفكير فالمجتمع لكي يستمر ويتقدم ليس في حاجة إلى انسجام في المصالح المادية والمنافع المتبادلة فحسب بل في حاجة كذلك إلى اتفاق عقلي.
ولقد كانت الفوضى في رأيه راجعة إلى وجود أسلوبين متناقضين للتفكير ، التفكير العقلي والذي من خلاله يتم تناول الظواهر الكونية والطبيعية والبيولوجية وثانيهما التفكير الديني الميتافيزيقي والذي يتناول الظواهر التي تتعلق بالإنسان والمجتمع ، ولقد أدت هذه الفوضى إلى فساد في الأخلاق والسلوك ، وللقضاء على هذه الفوضى عرض كونت ثلاثة تصورات هي :
أ- التوفيق بين التفكير الوضعي والميتافيزيقي .
ب- أن نجعل المنهج الديني (التيولوجي) والميتافيزيقي منهجا عاما تخضع له جميع العقول والعلوم .
ج- أن نعمم المنهج الوضعي فنجعل منه منهجا كليا يشمل جميع ظواهر الكون ، فبالنسبة للوسيلة الأولى لا يمكن تحقيقها علميا لأن المنهجين متناقضين فالمنهج الأول نسبي والثاني مطلق فغاية الأول كشف القوانين العلمية وهدف الثاني وضع مبادئ فلسفية لا سبيل إلى تصورها.
أما الوسيلة الثانية فهي قد تحقق الوحدة العقلية المنشودة ولكن هذا الوضع يتطلب القضاء على الحقائق الوضعية التي توصل إليها علماء مثل جاليليو وديكارت وبيكون ونيوتن ، وبالتالي هل نستطيع أن نحكم على القوانين الطبيعية التي حكمت على المراحل السابقة بالفساد ونمنعها من أن تحدث النتيجة نفسها مرة أخرى فكأننا نعيد الفوضى من جديد ونهدم المجتمع من حيث نريد له الإصلاح والتقدم.
وأخيرا لا يبقى في أيدينا إلى الاتجاه الثالث وهو أن نقبل التفكير الوضعي منهجا كليا عاما ونقضي على ما بقى من مظاهر التفكير الميتافيزيقي وهذا المنهج لا يمكن أن يتحقق إلا ظل شرطان :
1- أن تكون هذه الظواهر خاضعة لقوانين ولا تسير وفق الأهواء والمصادفات.
2- أن يستطيع الأفراد الوقوف على هذه القوانين لكي يفهموا الظواهر.
لهذا كان لا بد من ظهور علم يعالج الفوضى وتنطبق عليه هذه الشروط وهو ما أسماه أولا بالفيزياء الاجتماعية أو علم الاجتماع.
ولقد قسم كونت موضوعات هذا العلم إلى قسمين هما :
(1) الاستاتيكا الاجتماعية .
(2) الديناميكا الاجتماعية.
ولقد كان في تصوره أن هذين القسمين يصوران البناء التنظيمي لهذا المجتمع وكذا مبادئ التغير الاجتماعي لهذا المجتمع ، فالاستاتيكا الاجتماعية تشمل الطبيعة الاجتماعية ( الدين والفن والأسرة والملكية والتنظيم الاجتماعي) والطبيعة البشرية (الغرائز والعواطف والعقل والذكاء) بينما تشمل الديناميكا الاجتماعية قوانين التغير الاجتماعي والعوامل المرتبطة به ( مستوى الضجر وطريقة الحياة ونمو السكان ومستوى التطور الاجتماعي والفكري ) ورأى كونت أن هذا البناء ككل يتقدم خلال مراحل التطور الثلاث نحو المرحلة الوضعية .
وسنتناول الاستاتيكا والديناميكا الاجتماعية بالتفصيل في الآتي :
أولاً : الاستاتيكا الاجتماعية :
تعني الاستقرار حيث تهتم الاستاتيكا بالشروط الضرورية لوجود المجتمع الإنساني ومن ثم فإن التركيز يكون أساسا على النظام العام فدراسة النظام العام هي دراسة لعوامل التوازن والانسجام في بيئة المجتمع ، تلك العوامل التي أطلق عليها كونت مصطلح الاتساق العام ، والاتساق العام هو التساند والاعتماد المتبادل بين الظواهر موضوع البحث أو بعبارة أخرى هو الارتباط الضروري القائم بين عناصر المجتمع ومكوناته الرئيسية ، والدراسة الاستاتيكية للنظام الاجتماعي تشبه ما اصطلح على تسميته بلغة علم الاجتماع المعاصر بالبناء الاجتماعي .
ولقد وصل كونت في تحليله الاستاتيكي إلى أن المجتمع يتكون من ثلاثة وحدات أو عناصر أساسية هي الفرد والأسرة والدولة ، غير أن الفرد لا يعتبر عنصرا اجتماعيا فالقوة الاجتماعية مستمدة في حقيقتها من تضامن الأفراد واتحادهم ومشاركتهم في العمل وتوزيع الوظائف فيما بينهم ، أما القوة الفردية الخالصة فلا تبدو إلا في قوته الطبيعية ولكن ليست لهذه القوة أية قيمة إذا كان الفرد وحيدا أعزل من الأساليب والوسائل التي تذلل له متاعب الحياة ولا قيمة كذلك لقوة الفرد العقلية والأخلاقية فالأولى لا تظهر إلا بمشاركة غيرها من القوى واتحادها ببعضها والثانية في نظره وليدة الضمير الجمعي والتضامن الأخلاقي في المجتمع ، وهذا يعني أن الفردية الخالصة بفرض وجودها لا تمثل شيئا في الحياة الاجتماعية . بينما الأسرة هي أول خلية في جسم التركيب الجمعي وهي ثمرة من ثمرات الحياة الاجتماعية ويعرف كونت الأسرة بأنها " اتحاد ذو طبيعة أخلاقية " لأن المبدأ الأساسي في تكوينها يرجع في نظره إلى وظيفتها الجنسية والعاطفية ولا شك أن الميل المتبادل بين الزوجين والعطف والمتبادل بينهما من جهة والأبناء من جهة أخرى والمشاركات الوجدانية الموجودة بين أفراد هذا المجتمع الصغير ثم تربية الأطفال والنزعة الدينية التي يغرسها الأبوان في أولادهم والحقوق والواجبات المترتبة لكل عضو في الأسرة قبل العضو الآخر ، كل هذه الأمور ترجع في طبيعتها إلى وظيفة الأسرة الأخلاقية .
لقد كان كونت ينظر إلى المجتمع على أنه وحدة حية ومركب معقد أهم مظاهره التعاون والتضامن ولذلك فهو من طبيعة عقلية وأما وظيفته الأخلاقية فإنها تابعة للوظيفة العقلية ولاحقة بها ومترتبة عليها ويرى كونت أن مبدأ التعاون والتضامن هو الذي يسيطر على المجتمع ويحكمه ويسمى لدى بعض المفكرين المحدثين تقسيم العمل.
ولقد انتهى كونت في دراسة الاستاتيكا الاجتماعية إلى " قانون التضامن" والذي يطلق عليه " قانون التضامن الاجتماعي المادي والروحي " وملخص هذا القانون أن مظاهر الحياة الاجتماعية تتضامن بعضها مع بضع وتسير أعمال كل منها منسجمة مع أعمال ما عداها شأنها في ذلك شأن جسم الإنسان الذي يختص كل عضو منه بأداء وظيفة معينة ، وكما أن الوظائف الحيوية كلها تعمل بصفة تلقائية لحفظ المركب الحيوي والحرص على سلامته كذلك نظم المجتمع وعناصره تعمل متضامنة لتحقيق استقرار الحياة الاجتماعية ودوام بقائها.
ويرى كونت أن مبدأ التضامن الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق بصورة كاملة إلا إذا وجه المسئولون عنايتهم إلى إصلاح ثلاثة نظم اجتماعية أساسية وهي نظام التربية والتعليم ونظام الأسرة والنظام السياسي في الدولة . فنظام التعليم من شأنه أن يحارب الغرائز الفطرية ويهذب المشاعر الإنسانية ، أما النظام السياسي فمن شأنه أن يقاوم ما عسى أن ينشأ في جو المجتمع من تصادم بين مصالح الهيئات الاجتماعية ومن نزاع بين الطبقات حول مشاكل الإنتاج وكيفية توزيعه .
وبصدد إصلاح نظام التربية والتعليم يرى كونت أن المجتمع يحتاج إلى نظام من التربية العصرية يحل محل دراسة الآداب والنظريات المجردة وهذا النظام لابد وأن يقوم أولا على معرفة حقائق العلوم الوظيفية الجزئية ويقوم ثانيا على أسس علمية تنحوا بالنشئ بعيدا عن الجمود والعقم النظري ويؤهل الأفراد للمشاركة بصورة إيجابية فيما يتطلبه المجتمع من وظائف جديدة . ويجب أن يكون للإعداد المهني معاهد جديدة خاصة ، كما قسم مراحل التعليم إلى ثلاثة مراحل ، مرحلة ابتدائية وإعدادية وعالية وظيفتها إعداد الشباب لمواجهة حياتهم العملية.
كما أنه تناول الإصلاح الأسري ويلاحظ أن تصوره مستمد من المذهب الكاثوليكي حيث يركز بصفة خاصة على الوظيفة الأخلاقية والتربوية ، وبالنسبة لإصلاح النظام السياسي تعرض كونت لوظيفة الحكومة وحللها وقرر أن هذه الوظيفة ليست سهلة الأداء وليست مقصورة فقط على تنظيم البوليس أو ضمان سلامة الشعب ونشر الأمن وليست كما كان يقال عنها في القرن الثامن عشر أنها شر لابد منه بل على العكس من كل هذا فإن الحكومة هي أولى الوظائف الاجتماعية وأهمها وهي دليل على مبلغ تقدم المجتمع وهذا التقدم مرهون بنظام هذه الهيئة ومبلغ انقياد الأفراد لها ومدى سلطتها عليهم فوظيفة الحكومة في نظره تقوم على مبدأ التضامن في المجتمع والحرص على وحدته .
ولقد تناول كونت النظام الاقتصادي حيث تعرض للنظريات السائدة ونقدها جميعا حيث نقد آراء مدرسة الفيزيوقراط وما تذهب إليه من إشاعة الحرية الاقتصادية ونادى بضرورة التدخل من جانب الحكومة لكي تقيم توازنا معقولا بين الأهداف الفردية وبين ما ينبغي أن تكون عليه المعاملات الاجتماعية ، كما نقد الإشتراكيين والشيوعيين واعترف بأنهم وفقوا في الوصول إلى بعض الحقائق ولم يكونوا مخطئين في كل ما قالوه واتفق معهم في ضرورة تدخل الحكومة في العلاقات الاقتصادية ، كما درس كونت الناحية الأخلاقية ورأى وجوب قيام علم وضعي هو علم الأخلاق ورأى أن هذا العلم لا يمكن تأسيسه إلا بعد قيام علم الاجتماع .
ولم يفت كونت أن يدرس الناحية الدينية في المجتمع لأن المجتمع في حاجة ماسة إلى مجموعة منظمة من العقائد يتفق عليها الأفراد جميعا وهذا لا يتأتى إلا إذا ألغينا الديانات القائمة وصهرناها في دين جديد ، أي أنه إلى جانب النظم السابقة وضع نظاما دينيا جديدا هو الدين الوضعي ، ويدور هذا الدين حول عبادة الإنسانية كفكرة ، أي أن فكرة الإنسانية تحل في رأيه محل فكرة " الله " في الديانات المعروفة .
ثانياً : الديناميكا الاجتماعية :
تدور دراسات كونت في الديناميكا الاجتماعية حول نظريتين أساسيتين هما :
أ. نظرية في تطور المجتمعات ( قانون المراحل الثلاثة ) .
ب. نظرية في تقدم الإنسانية.
1 – نظرية التقدم:
يرى كونت أن التقدم الاجتماعي لابد وأن يكون خاضعا لقوانين ولعل هذه الفكرة كانت غائبة عن أذهان المفكرين السابقين الذين درسوا الحركات الاجتماعية بوصفها ذبذبات أو اضطرابات وهو يرى أن انتقال الإنسانية من مرحلة إلى أخرى يكون عادة مصحوبا بتقدم أو تحسن يبدو في مظهرين:
(1) التقدم المادي.
(2) التقدم في الطبيعة الإنسانية.
والتقدم المادي يكون أوضح وأسرع حركة وأسهل تحقيقا ، أما التقدم في الطبيعة الإنسانية فيكون واضحا في الطبيعة البيولوجية والعقلية ، وهو يرى أن الجانب العقلي من التقدم جانب أساسي وظاهر فالتاريخ يحكمه ويوجهه نمو الأفكار .
ويرى كذلك أن الإنسان يبدو غالبا مشغولا بإشباع حاجات مادية ولذلك فإن التقدم يكون واضحا وظاهرا بالفعل في مجال السيطرة على قوى الطبيعة لكن كونت يصر على أن النمو العقلي يؤدي إلى النمو المادي .
ولقد دعم كونت نظريته المتفائلة بقبوله النظرية التي تقول أن السمات التي يكتسبها الفرد خلال حياته يمكن أن تنتقل بالوراثة البيولوجية إلى الأبناء ، كما اعتقد كونت أن التطور الاجتماعي ما هو إلا استمرار للتقدم العام الذي يبدأ من مملكة النبات فالسلسلة الاجتماعية الكبرى تتطابق مع سلسلة الكائنات الكبرى وليس مع تتابع المراحل العمرية لكائن عضوي بسيط ويعد هذا الافتراض عنصرا أساسيا في نسق فكري يؤكد التقدم المستمر.
وتمثل الديناميكا الاجتماعية ما يعرف الآن في علم الاجتماع باسم التغير الاجتماعي.
2 ـ قانون المراحل الثلاثة :
يؤمن كونت بالتقدم أي التحول إلى المجتمع المثالي مثله مثل غيره من فلاسفة عصره ، وعلى الرغم من ذلك فهو يصر على أن هذا المجتمع لن يتحقق بالثورة السياسية بل عن طريق التطبيق المناسب لعلم أخلاقي جديد وهذا العلم أسماه علم الاجتماع ، سنة 1839م ، ولهذا أصبح كونت معروفا بأنه الأب المؤسس لعلم الاجتماع " أرفع العلوم جميعا " والعلم الذي سوف يستخدم المنهج العلمي الوضعي من خلال الملاحظة والتجريب والمقارنة من أجل فهم نظام ما ومن أجل دفع التطور ويتضمن التطور والوصول إلى المجتمع المثالي .
أما مرور فكرة الإنسان بمراحل تاريخية معينة هي المرحلة اللاهوتية والمرحلة الميتافيزيقية والمرحلة الوضعية (الإيجابية) . فقد أشار إلى أن تقدم المعرفة هو الأساس الذي ترتكز عليه نظريته في التطور من خلال (قانون المراحل الثلاث) والذي يعد أمرا حتميا فقط بل إنه أمر قطعي أيضا بالإضافة إلى ذلك فإن تقدم المعرفة لا نهائي بمعنى أننا دائما نقترب من المعرفة الوضعية الكاملة ولكننا لا ندركها مطلقا.
ولقد تناول كونت كل مرحلة من هذه المراحل بصورة أكثر تفصيلا:
فبالنسبة للمرحلة الأولى وهي المرحلة اللاهوتية : حيث يعتقد الناس أن الموضوعات الجامدة ( التي لا حياة فيها ) هي موضوعات حية ولقد مرت هذه النظرية العامة نفسها بثلاث مراحل :
1- Animism or Fetishism والتي تنظر إلى كل موضوع على أن له إرادته الخاصة .
2- Polytheism والتي تعتقد أن الكثير من الإرادات السماوية تفرض نفسها على الموضوعات.
3- Monotheism والتي تعتقد بوجود إله واحد يفرض نفسه على الموضوعات وعموما فإن المرحلة اللاهوتية تتميز بسيطرة اللاهوت على النظام ويتسم الأفراد بالبدائية حيث يعتقدون في الخرافات وتعتبر العبودية والعسكرية من السمات الرئيسية لهذه الفترة .
أما المرحلة الثانية وهي المرحلة الميتافيزقية : وهي الفترة التي حدث فيها تفسير للسببية بلغة القوى المجردة ، حيث تحل الأسباب والقوى التجريدية محل الإرادات وتسود فكرة وجود كيان عظيم واحد هو الطبيعة .
أما المرحلة الثالثة والأخيرة فهي المرحلة الوضعية أو الإيجابية : وتتميز هذه المرحلة بأنها مرحلة إيجابية يحل فيها العلم محل الخرافات حيث يطور البشر عملية التفسير بمصطلحات العملية الطبيعية والقوانين العلمية وعند هذه النقطة من تطور المجتمع يصبح من الممكن التحكم في الأحداث الإنسانية ، ويعتقد كونت أو المدنية الأوروبية قد وصلت بالفعل إلى المرحلة الوضعية من التحكم في الظروف الطبيعية وأصبحت على حافة الوضعية فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية .
ولا تظهر كل مرحلة من المراحل السابقة صورة محددة من النمو العقلي فقط بل إن لكل مرحلة تطور مادي مماثل ، ففي المرحلة اللاهوتية تسود الحياة العسكرية وفي المرحلة الميتافيزيقية تسود الأشكال القانونية أما المرحلة الوضعية فهي مرحلة المجتمع الصناعي ، وهكذا يتمسك كونت بأن التطور التاريخي يكشف عن حركة متوافقة للأفكار والمؤسسات . ويصور الشكل عرض مختصر لنمط المجتمع عند كونت والذي يشمل الاستاتيكا الاجتماعية والديناميكا الاجتماعية .
مراحل التطور الثلاث : الغائية والميتافيزقية والوضعية :
* التقدم وليد الضعف الإنساني .
* الحركة نحو سيطرة علم الاجتماع ( حكم علم الاجتماع).
* الصدام بين السلطات والكنسية والعسكرية .
فهو يرى أنه من خلال قانون المراحل الثلاثة أن العقل الإنساني أو التفكير الإنساني قد انتقل في إدراكه لكل فرع من فروع المعرفة من الدور الديني (التيولوجي) إلى الدور الميتافيزيقي وأخيرا الدور الوضعي أو العلمي .
ويقصد بالدور الديني أن العقل كان يسير على أسلوب الفهم الديني بمعنى أنه يفسر الظواهر بنسبتها إلى قوى غيبية خارجة عن الظاهرة نفسها كالآلهة والأرواح الشيطانية وما إليها كأن يفسر ظاهرة النمو في النبات بنسبتها إلى الله عز وجل ، ويقصد بأسلوب الفهم الميتافيزيقي أن العقل كان يفسر الظواهر بنسبتها إلى معان مجردة أو قوى ميتافيزقية كأن يفسر ظاهرة النمو في النبات بنسبتها إلى قوة النبات . ويقصد بأسلوب الفهم العلمي أن العقل يذهب في تفسيره للظواهر بنسبتها إلى القوانين التي تحكمها والأسباب المباشرة التي تؤثر فيها كأن يفسر ظاهرة النمو بنسبتها إلى العوامل الطبيعية والكيميائية والقوانين المؤلفة لهذه الظاهرة.
رابعاً : منهج البحث عند كونت :
تتلخص قواعد المنهج عند كونت في الملاحظة والتجربة والمنهج المقارن ثم ما يسميه كونت بالمنهج التاريخي وسنتعرض في الآتي لكل منها :
1- الملاحظة : المقصود بالملاحظة ليس مجرد الإدراك المباشر للظواهر ولكن هناك وسائل أخرى مثل دراسة العادات والتقاليد والآثار ومظاهر الفنون الأخرى وتحليل ومقارنة اللغات والوقوف على الوثائق والخبرات التاريخية ودراسة التشريعات والنظم السياسية والاقتصادية وما إليها .
والملاحظة الاجتماعية ليست سهلة وذلك لطبيعة تداخلها وكذا لأن الفرد يشارك فيها بدرجة أو بأخرى ، لذا يجب النظر إلى الحقائق الاجتماعية على أنها موضوعات منعزلة عنا وخارجة عن ذاتنا ومنفصلة عن شعورنا حتى نستطيع أن نصل من وراء الملاحظة الاجتماعية إلى نتائج أقرب إلى حقائق الأمور ، وهو يرى أن الملاحظة أو استخدام الحواس الفيزيائية يمكن تنفيذها بنجاح إذا وجهت عن طريق نظرية.
2- التجربة : يقصد بها التجربة الاجتماعية حيث يمكن مقارنة ظاهرتين متشابهتين في كل شيء ومختلفتين في شيء واحد .
3- المنهج المقارن : وهو يرى أن المقارنة الاجتماعية بالمعنى الصحيح تقوم على مقارنة المجتمعات الإنسانية بعضها ببعض للوقوف على أوجه الشبه وأوجه التباين بينها.
4- المنهج التاريخي : ويسميه كونت بالمنهج السامي ويقصد به المنهج الذي يكشف عن القوانين الأساسية التي تحكم التطور الاجتماعي للجنس البشري باعتبار هذا الجنس وحدة واحدة تنتقل من مرحلة إلى أخرى أرقى منها.
ولقد ميز كونت علم الاجتماع عن الفلسفة السياسية بإصراره على أن الاستقصاءات السوسيولوجية لابد وأن تعتمد على المناهج الوضعية أو الموضوعية في الملاحظة والتجريب والمقارنة المميزة للعلوم الطبيعية ، كما أن تطبيق المعرفة العلمية عن المجتمع جديرة بأن تقدم أكبر تقدم في المجتمع الإنساني ، ولقد جاهد كونت وكتب كثيرا دفاعا عن الموقف الوضعي بالنسبة لدراسة المجتمع ولذلك أصبحت الوضعية مقترنة بكونت تاريخيا ، إلا أنه لم يمارس عمليا ما كان ينادى به حيث أنه لم يقم بدراسات يستخدم فيها طرق البحث الاجتماعي فلا نزاع في أنه أول من عرف علم الاجتماع بأنه الدراسة الواقعية المنظمة للظواهر الاجتماعية.
يعتبر الكثيرون من الكتاب الغربيون أن أوجست كونت هو الأب المؤسس لعلم الاجتماع متناسين في ذلك الرائد الحقيقي لهذا العلم وهو عبد الرحمن ابن خلدون إما عن عمد وإما نتيجة قصور في أن دراساته لم تلقى ما تستحقه من ذيوع وانتشار .
ولقد ولد أوجست كونت في مونتيليه بفرنسا عام (1798 – 1857) والتحق وهو في سن السادسة عشرة بمدرسة البولتكنيك أو مدرسة الفنون التطبيقية ولقد كانت أوسع المدارس شهرة وأكثرها تميزا في ذلك الوقت ونظرا لطبيعة الدراسة بهذه المدرسة فلقد كان الاهتمام الأساسي لمناهجها هو التركيز على دراسات الرياضة والطبيعة ولم يكن هناك تركيز يذكر على الدراسات الإنسانية بوجه عام .
وفي سن التاسعة عشرة عمل كونت سكرتيرا للكاتب الإشتراكي المعروف (سان سيمون) وكان ما زال طالبا بمدرسة الفنون التطبيقية ومع أن سان سيمون كان ينتمي إلى الأرستقراطية الفرنسية إلا أنه أصبح واحدا من أوائل مشاهير الإشتراكيين المثاليين وواحدا من المفكرين الاجتماعيين ولقد عمل كونت وسان سيمون معا منذ عام 1817م وحتى عام 1823م وكانت علاقتهما في عملهما وثيقة لدرجة أنه أصبح من الصعب معها التمييز بين إسهامات كل منهم ويتضح ذلك في عملهم المسمى " خطة العمليات اللازمة لإعادة تنظيم المجتمع " .
ولقد كانت حياة كونت سلسلة من الإحباطات والمعارك الشخصية الأمر الذي تزايدت معه عزلته الاجتماعية بصورة مستمرة حتى أنه أصيب بمرض عقلي جعله ينقطع عن محاضراته التي كان قد بدأ في إلقائها سنة 1826م في الفلسفة الوضعية مما دعاه إلى محاولة الانتحار غرقا في نهر السين ، ثم عاد ما بين سنة 1830 – 1843 إلى إلقاء محاضراته التي كان قد انقطع عنها وفيها قدم تصوراته للمعرفة والعلوم وحاول خلالها وضع أسس علمه الجديد والذي أطلق عليه في بادئ الأمر (الفيزياء الاجتماعية) ثم تجنبا لتكرار الاسم الذي سبقه إليه (كتيليه) سمى العلم الجديد باسم علم الاجتماع.
ويعد كونت مثله في ذلك مثل سبنسر من أنصار المدخل العضوي والذي أعطى اهتماما أساسيا إلى البناء الميكانيكي الآلي للكائن الاجتماعي حيث كان ينظر أصحاب هذا المدخل إلى المجتمع باعتباره نظاما متكاملا يؤدي كل عضو من أعضائه وظيفته من أجل استمرار الكل وأن هذا المجتمع جزء لا ينفصل عن النظام الوظيفي .
وجدير بالذكر أن النموذج العضوي في النظرية الاجتماعية أقدم أشكال النظرية الاجتماعية وثمة ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية أدت إلى ظهور وإرساء قواعد هذا النمط في النظرية الاجتماعية ، فالمبادئ الأساسية للنموذج العضوي دعى إليها جماعة من مفكري الطبقة العليا درسوا فلسفة عصر التنوير وآمنوا بها وتفاعلوا مع البيئة الاجتماعية وعاشوا أحداث الثورة السياسية والانهيار الاجتماعي والتطور والنزعة الطبيعية والتصورية الاجتماعية والإصلاح الاجتماعي وقدموا رؤية جديدة للمجتمع تركز على حاجات المجتمع المنظمة ويؤدي هذا المجتمع وظائفه وفق القوانين الطبيعية .
القضايا الأٍساسية التي عالجها أوجست كونت:
أولاً : علم الاجتماع : على الرغم من أن أوجست كونت هو الذي أعطى العلم الاسم المستخدم الآن إلا أنه قد كرس جهده للدعوة إلى العلم أكثر من اهتمامه بموضوع العلم ، فلقد كان كونت ينظر إلى العلوم على أنها إما عملية تطبيقية أو نظرية ، أو أنها علوم وضعية ملموسة وأخرى مجردة حيث تهتم الأولى بالظواهر الملموسة وتعالجها بينما الثانية تنشغل باكتشاف القوانين الطبيعية التي تحكم هذه الظواهر وتحدد وجودها وتتابعها . وتشكل العلوم النظرية المجردة سلسلة أو سلما تعتمد فيه كل حلقة عليا على الحلقات التي تسبقها ، وتحتل الرياضة قاعدة السلم لأنها تهتم بالجوانب المجردة لجميع الظواهر يليها في الترتيب الميكانيكا والتي خلط كونت بينها وبين الفلك ثم الفيزياء والكيمياء فالبيولوجيا وفوق كل ذلك يتربع العلم الجديد أو الفيزياء الاجتماعية أو علم الاجتماع .
لقد كان المناخ الذي يسيطر على فرنسا في أعقاب الثورة الفرنسية مهيئا لبلورة أفكار كونت ولقد ظهرت مشكلات إصلاح المجتمع وإعادة تنظيمه بعد الثورة الفرنسية ولقد كان من وجهة نظره أن الفوضى التي يعيش فيها المجتمع ليست راجعة فقط إلى أسباب سياسية بل هي كذلك راجعة إلى أسباب عقلية أو إلى طرق التفكير فالمجتمع لكي يستمر ويتقدم ليس في حاجة إلى انسجام في المصالح المادية والمنافع المتبادلة فحسب بل في حاجة كذلك إلى اتفاق عقلي.
ولقد كانت الفوضى في رأيه راجعة إلى وجود أسلوبين متناقضين للتفكير ، التفكير العقلي والذي من خلاله يتم تناول الظواهر الكونية والطبيعية والبيولوجية وثانيهما التفكير الديني الميتافيزيقي والذي يتناول الظواهر التي تتعلق بالإنسان والمجتمع ، ولقد أدت هذه الفوضى إلى فساد في الأخلاق والسلوك ، وللقضاء على هذه الفوضى عرض كونت ثلاثة تصورات هي :
أ- التوفيق بين التفكير الوضعي والميتافيزيقي .
ب- أن نجعل المنهج الديني (التيولوجي) والميتافيزيقي منهجا عاما تخضع له جميع العقول والعلوم .
ج- أن نعمم المنهج الوضعي فنجعل منه منهجا كليا يشمل جميع ظواهر الكون ، فبالنسبة للوسيلة الأولى لا يمكن تحقيقها علميا لأن المنهجين متناقضين فالمنهج الأول نسبي والثاني مطلق فغاية الأول كشف القوانين العلمية وهدف الثاني وضع مبادئ فلسفية لا سبيل إلى تصورها.
أما الوسيلة الثانية فهي قد تحقق الوحدة العقلية المنشودة ولكن هذا الوضع يتطلب القضاء على الحقائق الوضعية التي توصل إليها علماء مثل جاليليو وديكارت وبيكون ونيوتن ، وبالتالي هل نستطيع أن نحكم على القوانين الطبيعية التي حكمت على المراحل السابقة بالفساد ونمنعها من أن تحدث النتيجة نفسها مرة أخرى فكأننا نعيد الفوضى من جديد ونهدم المجتمع من حيث نريد له الإصلاح والتقدم.
وأخيرا لا يبقى في أيدينا إلى الاتجاه الثالث وهو أن نقبل التفكير الوضعي منهجا كليا عاما ونقضي على ما بقى من مظاهر التفكير الميتافيزيقي وهذا المنهج لا يمكن أن يتحقق إلا ظل شرطان :
1- أن تكون هذه الظواهر خاضعة لقوانين ولا تسير وفق الأهواء والمصادفات.
2- أن يستطيع الأفراد الوقوف على هذه القوانين لكي يفهموا الظواهر.
لهذا كان لا بد من ظهور علم يعالج الفوضى وتنطبق عليه هذه الشروط وهو ما أسماه أولا بالفيزياء الاجتماعية أو علم الاجتماع.
ولقد قسم كونت موضوعات هذا العلم إلى قسمين هما :
(1) الاستاتيكا الاجتماعية .
(2) الديناميكا الاجتماعية.
ولقد كان في تصوره أن هذين القسمين يصوران البناء التنظيمي لهذا المجتمع وكذا مبادئ التغير الاجتماعي لهذا المجتمع ، فالاستاتيكا الاجتماعية تشمل الطبيعة الاجتماعية ( الدين والفن والأسرة والملكية والتنظيم الاجتماعي) والطبيعة البشرية (الغرائز والعواطف والعقل والذكاء) بينما تشمل الديناميكا الاجتماعية قوانين التغير الاجتماعي والعوامل المرتبطة به ( مستوى الضجر وطريقة الحياة ونمو السكان ومستوى التطور الاجتماعي والفكري ) ورأى كونت أن هذا البناء ككل يتقدم خلال مراحل التطور الثلاث نحو المرحلة الوضعية .
وسنتناول الاستاتيكا والديناميكا الاجتماعية بالتفصيل في الآتي :
أولاً : الاستاتيكا الاجتماعية :
تعني الاستقرار حيث تهتم الاستاتيكا بالشروط الضرورية لوجود المجتمع الإنساني ومن ثم فإن التركيز يكون أساسا على النظام العام فدراسة النظام العام هي دراسة لعوامل التوازن والانسجام في بيئة المجتمع ، تلك العوامل التي أطلق عليها كونت مصطلح الاتساق العام ، والاتساق العام هو التساند والاعتماد المتبادل بين الظواهر موضوع البحث أو بعبارة أخرى هو الارتباط الضروري القائم بين عناصر المجتمع ومكوناته الرئيسية ، والدراسة الاستاتيكية للنظام الاجتماعي تشبه ما اصطلح على تسميته بلغة علم الاجتماع المعاصر بالبناء الاجتماعي .
ولقد وصل كونت في تحليله الاستاتيكي إلى أن المجتمع يتكون من ثلاثة وحدات أو عناصر أساسية هي الفرد والأسرة والدولة ، غير أن الفرد لا يعتبر عنصرا اجتماعيا فالقوة الاجتماعية مستمدة في حقيقتها من تضامن الأفراد واتحادهم ومشاركتهم في العمل وتوزيع الوظائف فيما بينهم ، أما القوة الفردية الخالصة فلا تبدو إلا في قوته الطبيعية ولكن ليست لهذه القوة أية قيمة إذا كان الفرد وحيدا أعزل من الأساليب والوسائل التي تذلل له متاعب الحياة ولا قيمة كذلك لقوة الفرد العقلية والأخلاقية فالأولى لا تظهر إلا بمشاركة غيرها من القوى واتحادها ببعضها والثانية في نظره وليدة الضمير الجمعي والتضامن الأخلاقي في المجتمع ، وهذا يعني أن الفردية الخالصة بفرض وجودها لا تمثل شيئا في الحياة الاجتماعية . بينما الأسرة هي أول خلية في جسم التركيب الجمعي وهي ثمرة من ثمرات الحياة الاجتماعية ويعرف كونت الأسرة بأنها " اتحاد ذو طبيعة أخلاقية " لأن المبدأ الأساسي في تكوينها يرجع في نظره إلى وظيفتها الجنسية والعاطفية ولا شك أن الميل المتبادل بين الزوجين والعطف والمتبادل بينهما من جهة والأبناء من جهة أخرى والمشاركات الوجدانية الموجودة بين أفراد هذا المجتمع الصغير ثم تربية الأطفال والنزعة الدينية التي يغرسها الأبوان في أولادهم والحقوق والواجبات المترتبة لكل عضو في الأسرة قبل العضو الآخر ، كل هذه الأمور ترجع في طبيعتها إلى وظيفة الأسرة الأخلاقية .
لقد كان كونت ينظر إلى المجتمع على أنه وحدة حية ومركب معقد أهم مظاهره التعاون والتضامن ولذلك فهو من طبيعة عقلية وأما وظيفته الأخلاقية فإنها تابعة للوظيفة العقلية ولاحقة بها ومترتبة عليها ويرى كونت أن مبدأ التعاون والتضامن هو الذي يسيطر على المجتمع ويحكمه ويسمى لدى بعض المفكرين المحدثين تقسيم العمل.
ولقد انتهى كونت في دراسة الاستاتيكا الاجتماعية إلى " قانون التضامن" والذي يطلق عليه " قانون التضامن الاجتماعي المادي والروحي " وملخص هذا القانون أن مظاهر الحياة الاجتماعية تتضامن بعضها مع بضع وتسير أعمال كل منها منسجمة مع أعمال ما عداها شأنها في ذلك شأن جسم الإنسان الذي يختص كل عضو منه بأداء وظيفة معينة ، وكما أن الوظائف الحيوية كلها تعمل بصفة تلقائية لحفظ المركب الحيوي والحرص على سلامته كذلك نظم المجتمع وعناصره تعمل متضامنة لتحقيق استقرار الحياة الاجتماعية ودوام بقائها.
ويرى كونت أن مبدأ التضامن الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق بصورة كاملة إلا إذا وجه المسئولون عنايتهم إلى إصلاح ثلاثة نظم اجتماعية أساسية وهي نظام التربية والتعليم ونظام الأسرة والنظام السياسي في الدولة . فنظام التعليم من شأنه أن يحارب الغرائز الفطرية ويهذب المشاعر الإنسانية ، أما النظام السياسي فمن شأنه أن يقاوم ما عسى أن ينشأ في جو المجتمع من تصادم بين مصالح الهيئات الاجتماعية ومن نزاع بين الطبقات حول مشاكل الإنتاج وكيفية توزيعه .
وبصدد إصلاح نظام التربية والتعليم يرى كونت أن المجتمع يحتاج إلى نظام من التربية العصرية يحل محل دراسة الآداب والنظريات المجردة وهذا النظام لابد وأن يقوم أولا على معرفة حقائق العلوم الوظيفية الجزئية ويقوم ثانيا على أسس علمية تنحوا بالنشئ بعيدا عن الجمود والعقم النظري ويؤهل الأفراد للمشاركة بصورة إيجابية فيما يتطلبه المجتمع من وظائف جديدة . ويجب أن يكون للإعداد المهني معاهد جديدة خاصة ، كما قسم مراحل التعليم إلى ثلاثة مراحل ، مرحلة ابتدائية وإعدادية وعالية وظيفتها إعداد الشباب لمواجهة حياتهم العملية.
كما أنه تناول الإصلاح الأسري ويلاحظ أن تصوره مستمد من المذهب الكاثوليكي حيث يركز بصفة خاصة على الوظيفة الأخلاقية والتربوية ، وبالنسبة لإصلاح النظام السياسي تعرض كونت لوظيفة الحكومة وحللها وقرر أن هذه الوظيفة ليست سهلة الأداء وليست مقصورة فقط على تنظيم البوليس أو ضمان سلامة الشعب ونشر الأمن وليست كما كان يقال عنها في القرن الثامن عشر أنها شر لابد منه بل على العكس من كل هذا فإن الحكومة هي أولى الوظائف الاجتماعية وأهمها وهي دليل على مبلغ تقدم المجتمع وهذا التقدم مرهون بنظام هذه الهيئة ومبلغ انقياد الأفراد لها ومدى سلطتها عليهم فوظيفة الحكومة في نظره تقوم على مبدأ التضامن في المجتمع والحرص على وحدته .
ولقد تناول كونت النظام الاقتصادي حيث تعرض للنظريات السائدة ونقدها جميعا حيث نقد آراء مدرسة الفيزيوقراط وما تذهب إليه من إشاعة الحرية الاقتصادية ونادى بضرورة التدخل من جانب الحكومة لكي تقيم توازنا معقولا بين الأهداف الفردية وبين ما ينبغي أن تكون عليه المعاملات الاجتماعية ، كما نقد الإشتراكيين والشيوعيين واعترف بأنهم وفقوا في الوصول إلى بعض الحقائق ولم يكونوا مخطئين في كل ما قالوه واتفق معهم في ضرورة تدخل الحكومة في العلاقات الاقتصادية ، كما درس كونت الناحية الأخلاقية ورأى وجوب قيام علم وضعي هو علم الأخلاق ورأى أن هذا العلم لا يمكن تأسيسه إلا بعد قيام علم الاجتماع .
ولم يفت كونت أن يدرس الناحية الدينية في المجتمع لأن المجتمع في حاجة ماسة إلى مجموعة منظمة من العقائد يتفق عليها الأفراد جميعا وهذا لا يتأتى إلا إذا ألغينا الديانات القائمة وصهرناها في دين جديد ، أي أنه إلى جانب النظم السابقة وضع نظاما دينيا جديدا هو الدين الوضعي ، ويدور هذا الدين حول عبادة الإنسانية كفكرة ، أي أن فكرة الإنسانية تحل في رأيه محل فكرة " الله " في الديانات المعروفة .
ثانياً : الديناميكا الاجتماعية :
تدور دراسات كونت في الديناميكا الاجتماعية حول نظريتين أساسيتين هما :
أ. نظرية في تطور المجتمعات ( قانون المراحل الثلاثة ) .
ب. نظرية في تقدم الإنسانية.
1 – نظرية التقدم:
يرى كونت أن التقدم الاجتماعي لابد وأن يكون خاضعا لقوانين ولعل هذه الفكرة كانت غائبة عن أذهان المفكرين السابقين الذين درسوا الحركات الاجتماعية بوصفها ذبذبات أو اضطرابات وهو يرى أن انتقال الإنسانية من مرحلة إلى أخرى يكون عادة مصحوبا بتقدم أو تحسن يبدو في مظهرين:
(1) التقدم المادي.
(2) التقدم في الطبيعة الإنسانية.
والتقدم المادي يكون أوضح وأسرع حركة وأسهل تحقيقا ، أما التقدم في الطبيعة الإنسانية فيكون واضحا في الطبيعة البيولوجية والعقلية ، وهو يرى أن الجانب العقلي من التقدم جانب أساسي وظاهر فالتاريخ يحكمه ويوجهه نمو الأفكار .
ويرى كذلك أن الإنسان يبدو غالبا مشغولا بإشباع حاجات مادية ولذلك فإن التقدم يكون واضحا وظاهرا بالفعل في مجال السيطرة على قوى الطبيعة لكن كونت يصر على أن النمو العقلي يؤدي إلى النمو المادي .
ولقد دعم كونت نظريته المتفائلة بقبوله النظرية التي تقول أن السمات التي يكتسبها الفرد خلال حياته يمكن أن تنتقل بالوراثة البيولوجية إلى الأبناء ، كما اعتقد كونت أن التطور الاجتماعي ما هو إلا استمرار للتقدم العام الذي يبدأ من مملكة النبات فالسلسلة الاجتماعية الكبرى تتطابق مع سلسلة الكائنات الكبرى وليس مع تتابع المراحل العمرية لكائن عضوي بسيط ويعد هذا الافتراض عنصرا أساسيا في نسق فكري يؤكد التقدم المستمر.
وتمثل الديناميكا الاجتماعية ما يعرف الآن في علم الاجتماع باسم التغير الاجتماعي.
2 ـ قانون المراحل الثلاثة :
يؤمن كونت بالتقدم أي التحول إلى المجتمع المثالي مثله مثل غيره من فلاسفة عصره ، وعلى الرغم من ذلك فهو يصر على أن هذا المجتمع لن يتحقق بالثورة السياسية بل عن طريق التطبيق المناسب لعلم أخلاقي جديد وهذا العلم أسماه علم الاجتماع ، سنة 1839م ، ولهذا أصبح كونت معروفا بأنه الأب المؤسس لعلم الاجتماع " أرفع العلوم جميعا " والعلم الذي سوف يستخدم المنهج العلمي الوضعي من خلال الملاحظة والتجريب والمقارنة من أجل فهم نظام ما ومن أجل دفع التطور ويتضمن التطور والوصول إلى المجتمع المثالي .
أما مرور فكرة الإنسان بمراحل تاريخية معينة هي المرحلة اللاهوتية والمرحلة الميتافيزيقية والمرحلة الوضعية (الإيجابية) . فقد أشار إلى أن تقدم المعرفة هو الأساس الذي ترتكز عليه نظريته في التطور من خلال (قانون المراحل الثلاث) والذي يعد أمرا حتميا فقط بل إنه أمر قطعي أيضا بالإضافة إلى ذلك فإن تقدم المعرفة لا نهائي بمعنى أننا دائما نقترب من المعرفة الوضعية الكاملة ولكننا لا ندركها مطلقا.
ولقد تناول كونت كل مرحلة من هذه المراحل بصورة أكثر تفصيلا:
فبالنسبة للمرحلة الأولى وهي المرحلة اللاهوتية : حيث يعتقد الناس أن الموضوعات الجامدة ( التي لا حياة فيها ) هي موضوعات حية ولقد مرت هذه النظرية العامة نفسها بثلاث مراحل :
1- Animism or Fetishism والتي تنظر إلى كل موضوع على أن له إرادته الخاصة .
2- Polytheism والتي تعتقد أن الكثير من الإرادات السماوية تفرض نفسها على الموضوعات.
3- Monotheism والتي تعتقد بوجود إله واحد يفرض نفسه على الموضوعات وعموما فإن المرحلة اللاهوتية تتميز بسيطرة اللاهوت على النظام ويتسم الأفراد بالبدائية حيث يعتقدون في الخرافات وتعتبر العبودية والعسكرية من السمات الرئيسية لهذه الفترة .
أما المرحلة الثانية وهي المرحلة الميتافيزقية : وهي الفترة التي حدث فيها تفسير للسببية بلغة القوى المجردة ، حيث تحل الأسباب والقوى التجريدية محل الإرادات وتسود فكرة وجود كيان عظيم واحد هو الطبيعة .
أما المرحلة الثالثة والأخيرة فهي المرحلة الوضعية أو الإيجابية : وتتميز هذه المرحلة بأنها مرحلة إيجابية يحل فيها العلم محل الخرافات حيث يطور البشر عملية التفسير بمصطلحات العملية الطبيعية والقوانين العلمية وعند هذه النقطة من تطور المجتمع يصبح من الممكن التحكم في الأحداث الإنسانية ، ويعتقد كونت أو المدنية الأوروبية قد وصلت بالفعل إلى المرحلة الوضعية من التحكم في الظروف الطبيعية وأصبحت على حافة الوضعية فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية .
ولا تظهر كل مرحلة من المراحل السابقة صورة محددة من النمو العقلي فقط بل إن لكل مرحلة تطور مادي مماثل ، ففي المرحلة اللاهوتية تسود الحياة العسكرية وفي المرحلة الميتافيزيقية تسود الأشكال القانونية أما المرحلة الوضعية فهي مرحلة المجتمع الصناعي ، وهكذا يتمسك كونت بأن التطور التاريخي يكشف عن حركة متوافقة للأفكار والمؤسسات . ويصور الشكل عرض مختصر لنمط المجتمع عند كونت والذي يشمل الاستاتيكا الاجتماعية والديناميكا الاجتماعية .
مراحل التطور الثلاث : الغائية والميتافيزقية والوضعية :
* التقدم وليد الضعف الإنساني .
* الحركة نحو سيطرة علم الاجتماع ( حكم علم الاجتماع).
* الصدام بين السلطات والكنسية والعسكرية .
فهو يرى أنه من خلال قانون المراحل الثلاثة أن العقل الإنساني أو التفكير الإنساني قد انتقل في إدراكه لكل فرع من فروع المعرفة من الدور الديني (التيولوجي) إلى الدور الميتافيزيقي وأخيرا الدور الوضعي أو العلمي .
ويقصد بالدور الديني أن العقل كان يسير على أسلوب الفهم الديني بمعنى أنه يفسر الظواهر بنسبتها إلى قوى غيبية خارجة عن الظاهرة نفسها كالآلهة والأرواح الشيطانية وما إليها كأن يفسر ظاهرة النمو في النبات بنسبتها إلى الله عز وجل ، ويقصد بأسلوب الفهم الميتافيزيقي أن العقل كان يفسر الظواهر بنسبتها إلى معان مجردة أو قوى ميتافيزقية كأن يفسر ظاهرة النمو في النبات بنسبتها إلى قوة النبات . ويقصد بأسلوب الفهم العلمي أن العقل يذهب في تفسيره للظواهر بنسبتها إلى القوانين التي تحكمها والأسباب المباشرة التي تؤثر فيها كأن يفسر ظاهرة النمو بنسبتها إلى العوامل الطبيعية والكيميائية والقوانين المؤلفة لهذه الظاهرة.
رابعاً : منهج البحث عند كونت :
تتلخص قواعد المنهج عند كونت في الملاحظة والتجربة والمنهج المقارن ثم ما يسميه كونت بالمنهج التاريخي وسنتعرض في الآتي لكل منها :
1- الملاحظة : المقصود بالملاحظة ليس مجرد الإدراك المباشر للظواهر ولكن هناك وسائل أخرى مثل دراسة العادات والتقاليد والآثار ومظاهر الفنون الأخرى وتحليل ومقارنة اللغات والوقوف على الوثائق والخبرات التاريخية ودراسة التشريعات والنظم السياسية والاقتصادية وما إليها .
والملاحظة الاجتماعية ليست سهلة وذلك لطبيعة تداخلها وكذا لأن الفرد يشارك فيها بدرجة أو بأخرى ، لذا يجب النظر إلى الحقائق الاجتماعية على أنها موضوعات منعزلة عنا وخارجة عن ذاتنا ومنفصلة عن شعورنا حتى نستطيع أن نصل من وراء الملاحظة الاجتماعية إلى نتائج أقرب إلى حقائق الأمور ، وهو يرى أن الملاحظة أو استخدام الحواس الفيزيائية يمكن تنفيذها بنجاح إذا وجهت عن طريق نظرية.
2- التجربة : يقصد بها التجربة الاجتماعية حيث يمكن مقارنة ظاهرتين متشابهتين في كل شيء ومختلفتين في شيء واحد .
3- المنهج المقارن : وهو يرى أن المقارنة الاجتماعية بالمعنى الصحيح تقوم على مقارنة المجتمعات الإنسانية بعضها ببعض للوقوف على أوجه الشبه وأوجه التباين بينها.
4- المنهج التاريخي : ويسميه كونت بالمنهج السامي ويقصد به المنهج الذي يكشف عن القوانين الأساسية التي تحكم التطور الاجتماعي للجنس البشري باعتبار هذا الجنس وحدة واحدة تنتقل من مرحلة إلى أخرى أرقى منها.
ولقد ميز كونت علم الاجتماع عن الفلسفة السياسية بإصراره على أن الاستقصاءات السوسيولوجية لابد وأن تعتمد على المناهج الوضعية أو الموضوعية في الملاحظة والتجريب والمقارنة المميزة للعلوم الطبيعية ، كما أن تطبيق المعرفة العلمية عن المجتمع جديرة بأن تقدم أكبر تقدم في المجتمع الإنساني ، ولقد جاهد كونت وكتب كثيرا دفاعا عن الموقف الوضعي بالنسبة لدراسة المجتمع ولذلك أصبحت الوضعية مقترنة بكونت تاريخيا ، إلا أنه لم يمارس عمليا ما كان ينادى به حيث أنه لم يقم بدراسات يستخدم فيها طرق البحث الاجتماعي فلا نزاع في أنه أول من عرف علم الاجتماع بأنه الدراسة الواقعية المنظمة للظواهر الاجتماعية.
ليست هناك تعليقات