مفهوم الحكامة من المفاهيم الجديدة التي أحدثت ثورة على المستوى البيداغوجي لعلاقته بكافة التخصصات. وإذا حاولنا التأصيل له نجد أن كلا من المدرستين الفرنسية والانجلوساكسونية تنسبانه إليهما. إلا أنه من المؤكد انه ظهر في القرن ١٨ ، ولم يتم تداوله إلا في أواخر القرن ١٩مع ظهور المقاولة الصناعية نظرا للحاجة إلى حفظ التوازن الاقتصادي بنهج المراقبة على المستوى الصناعي .ثم طفا إلى السطح من جديد في الخمسينات من القرن الماضي بطرحه من طرف البنك الدولي . ليتم تداوله بقوة في الثمانينات في إطار البرنامج الاممي .وبعدها صار من المفاهيم الرائجة من طرف المختصين والخبراء والصحفيين.دون تحديد معناه الدقيق في غالب الأحيان.
وفي تحديد لمفهوم الحكامة ، يقارن الأستاذ حركات بينه وبين مفهوم حكومة . فإذا كانت الحكومة هي سلطة عمومية تتشكل من هرم يضم مجموعة من البنيات الادارية على رأسها الجهاز الحكومي الذي يحتكر القرار ، فان مفهوم الحكامة يقلب هذا الهرم ليجعل الحكومة مجرد فاعل في صنع القرار إلى جانب فاعلين آخرين يكتسون بدورهم أهمية بالغة كالشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين ومكونات المجتمع المدني.ويتميز مفهوم الحكامة الشاملة بديناميته لأنه يهتم بدور المجتمع في خلق وتحريك البنيات الاقتصادية و الإدارية. حتى إن بعض المختصين ذهب إلى التعليق بان الحكامة ما هي إلا تسمية خجولة لمفهوم الديمقراطية أو أنها الديمقراطية تحت اسم جديد. أما مضمونه ، فهو يعبر عن الكثير دون التعبير عن معنى محدد نظرا لدخوله في كل الاختصاصات وتميزه بأبعاد كثيرة. فالبنك الدولي يتعامل مع بعده الاقتصادي، بينما ترى الأمم المتحدة أن له بعدا إنسانيا، أي أن هذه الحكامة يجب أن تكون في خدمة الإنسان قبل كل شيء.
ويميز الأستاذ" حركات " بين نوعين من الحكامة : حكامة جيدة وحكامة رديئة.ويبين كيف أن الحكامة الجيدة ترتكز على مجموعة عناصر اختزلها في أربعة :
١/ وجود مخطط استراتيجي واضح وعملي: أي ضرورة وجود رؤية محددة وبرامج مدروسة في كل الميادين.
٢/ وجود هياكل: حيث أن كل البرامج مسارها إلى الفشل في غياب هياكل المناسبة .والمقصود بالهياكل هنا العنصر البشري المتميز بالكفاءة والمرونة والتكوين العالي والمستمر في كافة المجالات لتكون لديه الرؤية الشمولية . وهذا ليس بغريب في ظل اقتصاد عالمي اصبح ينعت باقتصاد المعرفة.
٣/ وجود منظومة إعلام وتواصل: إذ يعاب على الثقافة في المجتمعات العربية كونها تتسم بالطابع الشفوي ولا تخضع لتدوين للمعرقة. ومثال ذلك أننا لا نتوفر على بنك للمعلومات ولا حتى تحت قبة البرلمان للمساعدة على اتخاذ قرارات تتصف بالرؤية المنطقية الشاملة.ولا إنتاج نظريات خاصة بمجتمعاتنا . ومن هنا دور الإعلام في خلق التواصل بين المفكر والمسؤول والمواطن العادي.
٤/ التقويم المستمر للأخطار:evaluation: فكل عمل اقتصادي اجتماعي أو مؤسساتي يجب أن يخضع للتقويم والمراقبة الداخلية باستمرار. فقد تبين من تقرير المغرب حول "٥٠ سنة من التنمية البشرية" غياب ثقافة التقويم في بلادنا مما اثر عمليا على عدد من المشاريع والاوراش الكبرى التي دخلها كسياسة السدود مثلا . والمقصود بمفهوم التقويم هو المراقبة الدائمة لأي مشروع اقتصادي اجتماعي ...أو أي عمل مؤسساتي .بتناول ما حققه من انجازات وكذا ماشاب تطبيقه من عيوب، و الأسباب الكامنة وراءها .واستخلاص العبرة من تلك النتائج حتى يمكن تجنبها في المستقبل .وهذا دور الدراسات الإستراتيجية التي لا تدرس في بلادنا للأسف إلا في المدارس العسكرية.
ومن صور التقويم المستمر للأخطار ، أن يتمكن كل - شخص خاصة إذا كان مسؤولا- من معرفة ما عليه القيام به في الظروف الاستثناية قبل العادية.لان ذلك من شانه تجنيب المجتمع والدولة العديد من الخسائر الناتجة عن الحوادث الفجائية من حرائق وأمراض وحوادث ...كما من شانه حماية المال العام من سوء التدبير نتيجة خضوع تسييره لمراقبة دائمة من طرف المجتمع.
أما بخصوص الحكامة الرديئة فهي تتميز بكل ما يخالف المبادئ السابقة الذكر ، مع كل ما يصاحب ذلك من مظاهر الرشوة وسوء تدبير للمال العام...
ولمفهوم الحكامة الشاملة أبعاد دولية وأخرى محلية.
البعد الدولي :
يعيش العالم منذ سقوط جدار برلين حالة عدم استقرار نظرا لنظام القطب الوحيد بزعامة الولايات المتحدة.وما أنتجه من حروب وانعدام العدالة في التعامل مع القضايا الدولية، وانتشار لتجارة الأسلحة،وسيطرة للشركات المتعددة الجنسيات وما إلى ذلك.ومن أهم مبادئ الحكامة حق الشعوب في صنع قراراتها وسيادتها التامة في التعامل مع مشاكلها الداخلية.
وعلى المستوى الاممي نجد مجموعة من الفقهاء والباحثين يطالبون بمراجعة التنظيم الاممي لإنصاف بعض جهات العالم كالقارة الإفريقية مثلا .ونظرا لتنامي دور المنظمات غير الحكومية في تبني قضايا الشعوب والدفاع عنها في المحافل الدولية ، مما خلق مجتمعا مدنيا نشيطا موازيا للدولة، فقد صارت تطالب بتمثيليتها في الأمم المتحدة.
البعد المحلي:
تلعب الجماعات المحلية دورا كبيرا في تفعيل هذا المفهوم، لدرايتها بخصائص كل منطقة واحتياجاتها. غير أن طبيعة المنتخبين وعدم اطلاعهم على الدلالة الحقيقية لهذا المفهوم ، إضافة إلى غياب مراكز للدراسات الإستراتيجية على المستوى الوطني هما عاملان يحولان دون تأهيل هذه الجماعات للقيام بدورها. وأكثر منهما القوانين المالية المستهلكة والتي تشجع على التبديد { كإلغاء كل المصاريف التي لم يتم استهلاكها من ميزانية الجماعة على سبيل المثال}. هذه القوانين بحاجة إلى مراجعة شاملة لتتماشى مع المستجدات الاقتصادية الوطنية والدولية.بإعادة النظر في المنظومة المحاسبية- التي ترجع في اغلبها إلى نص ١٩٦٥ – قصد العمل على تنمية الموارد من خلال البحث عن شراكات جديدة ، وتبني رؤية شاملة ذات أهداف محددة.
تجدر الإشارة إلى أن التعامل مع مفهوم الحكامة يجب أن يتسم بنوع من الحذر نظرا لخلفياته الديماغوجية والاديولوجي { إذ يعتبر من المفاهيم التي يوظفها صندوق النقد الدولي لدفع الدول لإنعاش اقتصادها قصد استرداد ديونه }،غير أن له جوانب ايجابية عديدة قد تكون لها نتائج مستقبلية هامة إذا وظف بطريقة جيدة.
يجب ازالة الوصلات الاشهارية من فوق النصوص
ردحذف