Header Ads

نظرية أعمال السيادة

المبحث الأول
ماهية أعمال السيادة
نناقش في هذا المبحث ماهية أعمال السيادة من خلال ثلاثة مطالب : نبحث في المطلب الأول كيف نشأت أعمال السيادة وأصلها التاريخي ، ثم نبحث في المطلب الثاني تعريف أعمال السيادة ، وأخيراً نبحث في المطلب الثالث معيار أعمال السيادة .
المطلب الأول
الأصل التاريخي لنظرية أعمال السيادة
بعد قيام الثورة الفرنسية عمل رجالها على منع القضاء من التدخل في عمل الإدارة نهائياً ، وكان سبب ذلك هو ما كان يحمله رجال الثورة من صورة سيئة للقضاء وكثرة تدخله في أعمال الإدارة وتعطيلها عن القيام بمهامها واختصاصاتها ، وقد سّوغ رجال الثورة الفرنسية هذا الأمر بالاستناد إلى مبدأ الفصل بين السلطات ، حيث فسروا هذا المبدأ تفسيراً صارماً وخاصاً بهم ، وعدّوا أن هذا المبدأ يقضي بألا يتدخل القضاء في عمل الإدارة بتاتاً ، ولقد كشفت الأيام عدم صدق هذا التفسير ومخالفته لأبسط قواعد المنطق القانوني السليم .
وبناء على ما سبق فقد كان القضاء ممنوعاً من التدخل في أعمال الإدارة وقراراتها ، وسميت هذه المرحلة بمرحلة 'الإدارة القاضية' ، حيث كانت الإدارة تقوم بنفسها - بالفصل في المنازعات التي تنشأ بينها وبين الأفراد ، ولا يخفي ما في هذا الأمر من مخالفة لمبادئ القانون العامة التي تقضي بعدم جوز اجتماع صفتي الخصم والحكم في شخص واحد .
ولذلك لم تظهر أعمال السيادة في هذه المرحلة لعدم جدواها ، فالقاعدة السائدة في ذلك الوقت هي عدم مسئولية الإدارة عن أعمالها(1) .


وفي مرحلة لاحقة وبالأحرى في ظل الإمبراطورية الفرنسية الأولى ، أنشأ نابليون بونابرت مجلس الدولة الفرنسي ليقوم بمهام تساعد الإدارة في عملها ، ومن أهم هذه المهام حق الفصل في الطعون والتظلمات التي تقدم ضد القرارات التي تصدر من الإدارة(2) ، إلا أن حكمه في هذه الطعون لم يكن نهائياً حيث كان يلزم تصديق الإمبراطور عليه ليكون نافذاً ، وسميت هذه المرحلة بمرحلة 'القضاء المحجوز' .
وفي مرحلة لاحقة - وبالتحديد بعد سقوط الإمبراطورية الأولى وعودة الملكية إلى فرنسا سنة 1814م - كان مجلس الدولة ينظر إليه بعين الشك والريب ، حيث أنه يعد من مخلفات النظام البائد وامتداداً لحكم نابليون ، لذلك كانت رغبة رجال النظام الجديد هي إزالة هذا الكيان والقضاء عليه ، فإن لم يكن فعلى الأقل تقليص نفوذه والحد من رقابته على أعمال الإدارة ، فعملوا على انتظار أول فرصة للاحتكاك والاصطدام به ، إلا أن قضاة مجلس الدولة تنبهوا لهذا الأمر وأدركوا مقاصد النظام الجديد ، ولذلك عملوا جاهدين من أجل تجنب الاصطدام بالنظام حتى يحافظوا على وجود المجلس واستمراره، ومن هنا ظهرت نظرية أعمال السيادة على يد مجلس الدولة والتي بموجبها أخرج عدداً من أعمال الإدارة السياسية المهمة من رقابته ، وذلك منعاً للاصطدام بالحكومة ومحاولة منه لكسب ثقتها ، ويجمع شراح القانون العام على أن هذا التصرف من المجلس يعد سياسة حكيمة للحفاظ على كيانه .
ومن الصدف الغريبة التي واجهت مجلس الدولة الفرنسي وقت إقرار هذه النظرية أنه اعترف بها في قضية تتعلق بأسرة نابليون بونابرت صاحب الفضل في وجوده ، وموضوعها رفض النظام الحاكم تسليم أموال تم التبرع بها لعائلة بونابرت وتقريره حرمانها كلية من هذه الأموال ، وعرض النزاع على مجلس الدولة ليقول كلمته في مدى مشروعية هذا التصرف الحكومي وفي مدى أحقية الأسرة المدعية في هذه الأموال ، وكان رأي المجلس أن هذه المطالبة تتعلق بمسألة سياسية لا يختص هو بالفصل فيها وإنما يكون التقرير فيها أصلا للحكومة(3) .
ثم عادت الإمبراطورية الثانية واسترد المجلس مركزه السابق وثقة الحكومة ، وكان المجلس قد قطع شوطاً كبيراً في إخضاع الكثير من أعمال الإدارة لرقابته ، ومن أجل المحافظة على ما قام به لإرساء مبدأ المشروعية ، وحتى لا يضيع هذا الجهد العظيم ، ترك المجلس للإدارة - وعلى رأسها الإمبراطور - قدراً كبيراً من الحرية حتى لا يعوقها بتدخله ورقابته(4) .
وفي ظل الجمهورية الثالثة كانت الأوضاع القانونية قد استقرت ، ورسخت دعائم مبدأ المشروعية في فقه القانون ، وتدخل المشرع ليسجل ما أحرزه من تطور ، وختم كل ذلك بأن جعل للمجلس سلطة القضاء النهائي وكان ذلك بقانون 24 مايو سنة 1872، وسميت بمرحلة 'القضاء المفوض'(5) .
وكان يعتقد أن مجلس الدولة الفرنسي قد قبل هذه النظرية مكرهاً ، وأنه بعد منحه سلطة القضاء المفوض سينهال على أعمال السيادة بأحكام تزج
بها إلى المقصلة في ميدان الباستيل ، ولكن العكس هو الذي حدث تماماً ، إذ استمر المجلس واضطرد في أحكامه اللاحقة على سنة 1872على الاستناد لهذه النظرية حاكماً بعدم اختصاصه ببعض الأعمال التي سماها بأعمال السيادة تارة وبالأعمال السياسية تارة أخرى ، وما تزال تطبيقات النظرية موجودة في القضاء الإداري الفرنسي إلى الآن(6) .
وبعد هذا السرد التاريخي لكيفية ظهور أعمال السيادة ، يتبين لنا أن هذه النظرية سياسية البواعث قضائية الصنع ، إلا أننا وإن كنا نقبل ظهورها في ظل الأوضاع والضغوط التي كانت موجودة عند نشأتها إلا إننا نستغرب بقاءها بعد زوال أسباب ظهورها ، بل وفي ظل التطور الكبير الذي ساد في عالم القانون ، وخاصة فيما يتعلق بمبدأ المشروعية وسيادة القانون .

المطلب الثاني
تعريف أعمال السيادة
لقد حاول الفقه والقضاء وضع تعريف لأعمال السيادة ، وباستعراض هذه التعريفات يمكن تصنيفها إلى الطوائف التالية :
أ - الطائفة الأولى : وتركز هذه الطائفة من التعريفات على جانب نفي خضوع أعمال السيادة لرقابة القضاء بجميع صورها ، ومن أمثلة هذه التعريفات نرى أن البعض يعرف عمل السيادة بأنه : 'طائفة من أعمال السلطة التنفيذية تتمتع بحصانة ضد رقابة القضاء بجميع صورها أو مظاهرها ، سواء في ذلك رقابة الإلغاء أو رقابة التعويض أو رقابة فحص المشروعية'(1) .
والحقيقة أن هذه الطائفة تشمل الجانب الأكبر من محاولات الفقه لتعريف أعمال السيادة ، إلا إن هذه التعريفات لم توضح لنا المقصود بأعمال السيادة ولم تكشف لنا حقيقة هذه الأعمال ، وكل ما عملته هو تعريف عمل السيادة بطريقة سلبية معتمدة على النتيجة المتحققة من اكتساب عمل ما لصفة السيادة وهي عدم خضوعه لرقابة القضاء .
ب -الطائفة الثانية : وتركز هذه الطائفة في تعريفها لأعمال السيادة على جانب الجهة التي تملك تكييف العمل والحكم على ما إذا كان يعد من أعمال السيادة أم لا وهذه الجهة تتمثل في القضاء ، وعليه فتعرف هذه الطائفة عمل السيادة بأنه : 'كل عمل يقرر له القضاء الإداري هذه الصفة'(2)
وهذا التعريف أيضاً قاصر عن تحديد ماهية أعمال السيادة ، بل إنه لم يتعرض لطبيعة عمل السيادة وعناصره ، وكل ما قام به هو التأكيد على أن القضاء هو الجهة المخولة بتكييف عمل السيادة .
ج -الطائفة الثالثة : وتركز هذه الطائفة في تعريفها لأعمال السيادة على إظهار الجانب السياسي المرتبط بهذه الأعمال ، كما تركز على تحديد الحكمة من تحصين هذه الأعمال من رقابة القضاء وهي تعلقها بمصالح الدولة العليا ، ومن أمثلة هذه الطائفة تلك التي تعرف عمل السيادة على أنه 'العمل الذي تباشره الحكومة - بمقتضى سلطتها العليا - في سبيل تنظيم القضاء والإدارة والنظام السياسي والدفاع عن كيان الدولة وسلامتها في الداخل والخارج …'(3) ، أو كما عرفته محكمة القضاء الإداري في مصر بأنه : 'العمل الذي يتصل بالسيادة العليا للدولة والإجراءات التي تتخذها الحكومة بما لها من سلطان الحكم للمحافظة على سيادة الدولة وكيانها في الداخل والخارج'(4) .
والحقيقة أنه رغم تميز تعريفات هذه الطائفة على ما سبقها ورغم أنها كانت أكثر نجاحاً وتوفيقاً في تعريفها لعمل السيادة إلا أنه يعيبها اعتمادها على ألفاظ ومفردات واسعة ومطاطة تفتقر للدقة والضبط والتحديد ، عجزت عن إعطائنا تعريفاً دقيقاً لأعمال السيادة ولم تكشف لنا طبيعة هذه الأعمال وعناصرها الموضوعية .
وبعد هذا العرض لمحاولات الفقه والقضاء لوضع تعريف جامع مانع لأعمال السيادة ، يتبين لنا أن كل هذه المحاولات لم تحقق هذا الهدف ، وهذا ما أعلنته صراحة محكمة القضاء الإداري في مصر حيث قضت بأنه : '… لم يتيسر وضع تعريف حاسم أو حصر دقيق لأعمال السيادة ، إذ أن ما يعتبر عملاً إدارياً عادياً قد يرقى في ظروف وملابسات سياسية في دولة ما إلى مرتبة أعمال السيادة ، كما أن ما يعتبر من أعمال السيادة قد يهبط في ظروف أخرى إلى مستوى الأعمال الإدارية …'(5) .
ويرجع عجز هذه المحاولات في رأينا إلى غموض نظرية أعمال السيادة وعدم قيامها على سند متين من المنطق والقانون ، بل ومخالفتها لمبدأ المشروعية وسيادة القانون ، إلا أنه - رغم ذلك - يجب أن يحمد للفقه والقضاء قيامه بهذا الدور ومحاولته تحديد أعمال السيادة من أجل تقييدها وضبطها حتى لا تكون واسعة المدى في الوقت الذي تشكل فيه اعتداء على حقوق وحريات الأفراد .


المطلب الثالث
معيار تمييز أعمال السيادة
تقضي نظرية أعمال السيادة بخروج طائفة من أعمال السلطة التنفيذية من رقابة القضاء ، ومن الطبيعي أن الأمر يحتاج لمعيار يميز أعمال السيادة عن غيرها من الأعمال الإدارية التي تظل خاضعة للرقابة القضائية .
ولذلك اهتم رجال الفقه والقضاء بالعمل على وضع معيار يميز أعمال السيادة عن غيرها من أعمال السلطة التنفيذية ، وكانت نتيجة محاولات الفقه في هذا المجال أن ظهرت العديد من المعايير ، نعرض لها فيما يلي :
أولاً : معيار الباعث السياسي :
ويعد هذا المعيار أول المعايير التي قيلت في هذا الصدد ، وقد أخذ به مجلس الدولة الفرنسي عند ظهور أعمال السيادة لأول مرة ، ويقضي هذا المعيار بأن العمل الصادر من السلطة التنفيذية يعد من أعمال السيادة متى كان الباعث على إصداره تحقيق مقصد سياسي هدفه حماية الحكومة من أعدائها في الداخل والخارج (1) .
وكان معيار الباعث السياسي يجد مسوغه في حقيقة الوضع الذي كان يشغله مجلس الدولة في المرحلة الأولى من بدء نشاطه القضائي ، ذلك أن المجلس كان لا يزال محكوماً بفكرة القضاء المحجوز ، حيث كانت قراراته خاضعة لتصديق رئيس الدولة ، ومن ثم كان طبيعياً أن يساير الحكومة في اتجاهاتها العليا ، وخاصة بالنسبة للإجراءات التي تتخذها لمقاومة أعدائها وللحد من نشاطهم ، حتى تدعم وجودها وتثبت أركان النظام الجديد(2) .
والحقيقة أنه لا تخفى خطورة هذا المعيار ، حيث أنه يوسع من نطاق أعمال السيادة ويضيق من مدى رقابة القضاء لأعمال السلطة التنفيذية ، لأنه يعتمد في تحديده لعمل السيادة على باعث إصدار هذا العمل ، وكان تحديد الباعث موكولا للسلطة التنفيذية ذاتها ، فمتى ما أعلنت الحكومة بأن الباعث على إصدار هذا العمل سياسياً امتنع على القضاء نظر هذا العمل لأنه من أعمال السيادة .
ثانياً : معيار طبيعة العمل ذاته :
ويقوم هذا المعيار في تحديده لأعمال السيادة على التمييز بين نوعين من أعمال السلطة التنفيذية وهما أعمال الحكم وأعمال الإدارة ، ويقضي بأن أعمال السيادة هي تلك الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية في مجال وظيفتها الحكومية .
ورغم قيام هذا المعيار على طبيعة العمل ذاته وليس على الباعث من إصداره ، إلا أنه يؤخذ عليه غموضه ، كما أنه يحل المشكلة بمشكلة أخرى ، فهذا المعيار يحتاج لمعيار آخر يميز بين أعمال السلطة التنفيذية الحكومية وأعمالها الإدارية .
ثالثاً : معيار النصوص القانونية المطبقة :
يستند هذا المعيار في تحديده لأعمال السيادة على التفرقة بين النصوص الدستورية والنصوص القانونية ، فأعمال السيادة هي تلك الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية تنفيذاً لاختصاصاتها المحددة في النصوص الدستورية ، أما الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية استناداً إلى نصوص القوانين واللوائح فإنها تعد أعمالاً إدارية وتخضع للرقابة القضائية(3) .
والحقيقة أن هذا المعيار منتقد ، لأنه يؤدي إلى الخلط بين الأعمال الإدارية وأعمال السيادة ، حيث أن كثيراً من الأعمال التي يعدها القضاء أعمال سيادة ليست تنفيذاً لنصوص دستورية ، كما أن كثيراً من الأعمال الإدارية هي تنفيذ مباشر لبعض نصوص الدستور ولم يعدها القضاء أعمال سيادة(4) ، كما يعيب هذا المعيار أنه يؤدي إلى عدم إخضاع الأعمال المقيدة للحقوق والحريات الفردية لرقابة القضاء لمجرد صدورها تنفيذاً لنصوص دستورية ، وهو الأمر الذي يحول الدستور من أداة أساسية في تقرير الضمانات التي تكفل حماية حقوق الأفراد وحرياتهم إلى أداة في يد السلطة التنفيذية تستخدمها للتخلص من الرقابة القضائية على أعمالها في مواجهة الأفراد(5) .
رابعاً : معيار العمل المختلط :
يقضي هذا المعيار بأن أعمال السيادة هي تلك الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية بمناسبة علاقتها بسلطات أخرى سواء كانت هذه السلطات داخلية أم خارجية ، ومثال ذلك علاقة الحكومة بالبرلمان على المستوى الداخلي ، وعلاقاتها بالدول الأخرى على المستوى الخارجي .
ويستند هذا المعيار في تحديده لأعمال السيادة وعدم إخضاعها لرقابة القضاء ، على أن القضاء يعد غير مختص بنظر هذه الأعمال لأن ولاية القضاء الوطني تقتصر على تصرفات السلطة التنفيذية فحسب ولا تشمل ولايته أعمال السلطات الأجنبية أو أعمال السلطة التشريعية .
ورغم أن هذه النظرية تستند على أساس قانوني مستمد من القواعد التي تحكم القضاء الإداري(6) ، إلا إن هذا المعيار - كما يرى البعض - لا يزال قاصراً عن تحديد أعمال السيادة ، لأن التصرف موضوع البحث مهما يكن مركباً أو مختلطاً، فإنه لا يزال من حيث المصدر تصرفاً صادراً عن الهيئة التنفيذية وفي حدود ولايتها الخاصة بتنفيذ القوانين واللوائح ، كما أن اللجوء إلى القضاء إنما يكون لرقابة تصرفات السلطة التنفيذية ، فهي وحدها التي تخضع للمناقشة بمناسبة العمل المختلط ، إذ أنها مصدر العمل وفاعله الوحيد ، دون أن يغير من هذا النظر أن يكون العمل قد صدر بمناسبة علاقة قانونية مع هيئات عامة أخرى لا تخضع بذاتها للرقابة ، فارتباط التصرف بهذه العلاقة لا يصلح مسوغاً لحصانته في جملته ضد رقابة القضاء (7) .
خامسا : معيار القائمة القضائية :
اتجه البعض في تحديد أعمال السيادة إلى استقراء الأحكام القضائية وتعداد أعمال السيادة طبقاً لهذه الأحكام ، وذلك اعترافاً منهم بالعجز عن وضع معيار دقيق لتمييز أعمال السيادة عن غيرها من أعمال السلطة التنفيذية .
ويعيب هذا الاتجاه أنه لا يضع معياراً لأعمال السيادة بالمعنى الفني الدقيق ، كما أنه يؤدي إلى تحكم القضاء بدلاً من الإدارة في تحصين العمل الإداري من الرقابة القضائية ، فمنح القضاء سلطة تحديد عمل السيادة لا يعني عدم الحاجة إلى معيار لتحديد هذه الأعمال ، فالقضاء نفسه يحتاج هذا المعيار وإلا كان الأمر تحكماً واضحاً من القضاء طالما أن تحديد أعمال السيادة يتم بطريقة مزاجية من القاضي ودون معيار موضوعي واضح وسليم .
سادساً : النظرية السلبية :
قامت هذه النظرية في فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر ، وتهدف إلى إنكار وجود أعمال سيادة بجوار الأعمال الإدارية ولا تسلم بأن هذين النوعين من الأعمال يختلف أحدهما عن الآخر في المصدر والطبيعة والهدف ، وتقول هذه النظرية بأن ولاية القضاء تتسع لكل نزاع يتعلق بالحقوق والحريات وعلاقات الحاكم بالمحكوم وعلاقات الأفراد والجماعات فيما بينها وكل ما يتعلق بالعدل والإنصاف ، ولا تتقيد ولاية القضاء إلا بالقدر الذي يقضي به نص صريح في الدستور أو في القانون ، ولهذا أخذ فقهاء هذه النظرية يضعون قوائم لحصر تلك الأعمال التي تخرج عن ولاية القضاء ، لا من واقع قضاء المحاكم ومجلس الدولة كأصحاب الحصر العددي أو معيار القائمة القضائية ، بل من واقع الدستور والتشريعات المعمول بها .
والحقيقة أننا نتفق مع أصحاب هذه النظرية فيما قالوا به من إنكار وجود أعمال السيادة واتساع ولاية القضاء لكل المنازعات ، بل إننا نتفق معهم أيضاً فيما قرروه من إمكانية المشرع الدستوري في تحديد ولاية القضاء ، إلا أننا لا نوافقهم فيما ذهبوا إليه من إمكانية المشرع العادي من أن يحدد ولاية القضاء وتحصين بعض الأعمال الإدارية من الرقابة القضائية ، فإذا كان المشرع الدستوري يختص بتحديد السلطات العامة في الدولة وتوزيع الاختصاصات فيما بينها ، فإن المشرع العادي لا يملك - وهو أحد السلطات - أن يعتدي على السلطات الأخرى ومنها السلطة القضائية وذلك بأن ينتقص من ولاية القضاء ويخرج بعض المنازعات أو يحصن بعض الأعمال من الرقابة القضائية ، لأن ذلك يعد اعتداء على مبدأ الفصل بين السلطات وتعدياً على حقوق الأفراد وحرياتهم وإخلالاً بمبدأ المشروعية وسيادة القانون(9) .
والخلاصة في هذا الأمر ، أن الفقه فشل في العثور على معيار يقوم بتمييز أعمال السيادة عن غيرها من أعمال السلطة التنفيذية ، لذلك نراه لجأ إلى معيار القائمة القضائية الذي نقل - بموجبه - هذه المهمة إلى عاتق القضاء ، وحتى القضاء نفسه عجز حتى الآن عن صيانة معيار واضح في هذا الشأن ولذلك نراه يوسع من مدى أعمال السيادة في أحيان ويضيق من مداها في أحيان أخرى .
ويرجع هذا الفشل في العثور على معيار واضح وموضوعي يحدد أعمال السيادة ويميزها عن غيرها من الأعمال الإدارية إلى غموض نظرية أعمال السيادة نفسها وعدم توافقها مع المنطق القانوني السليم وأنها أحد تدخلات السياسة في عالم القانون ، بالإضافة إلى مخالفتها لمبدأ المشروعية وسيادة القانون واعتداءها على حقوق الأفراد وحرياتهم ، فإذا كانت الفكرة غامضة وغير متوافقة مع المنطق القانوني ، فأنه يصعب تحديدها ووضع معيار واضح لها .

>المبحث الثاني
الأساس القانوني لأعمال السيادة
اختلف الفقه الفرنسي حول أساس حصانة أعمال السيادة ضد رقابة القضاء ، وتبلورت أهم الآراء فيما يلي :
1 - ذهب بعض الفقهاء - ومنهم العلامة موريس هوريو - إلى مسوغ لها بقوله : إنها تمثل سياسة حكيمة لمجلس الدولة الذي تحاشى - عن طريقها - قيام النظام الجديد - بعد عودة الملكية - بإلغائه للتخلص من رقابته ، وذلك كما أوضحنا سلفاً في دراسة نشأة أعمال السيادة وأصلها التاريخي .
2 - كذلك ذهب البعض إلى أن نظرية أعمال السيادة تستند إلى اعتبارات سياسية ، وذلك إبان الفترة التي كان القضاء يطبق فيها على تلك الأعمال معيار الباعث السياسي ، فاعتناق القضاء للمعيار المذكور ينم عن رغبته في عدم التدخل في الأعمال السياسية للحكومة ، لأن رقابة هذه الأعمال سوف تكون بالضرورة ذات طابع سياسي ، وبالتالي يجب أن يعهد بها إلى هيئة سياسية(1) .
ومن أصحاب هذا الرأي العلامة ادوارد لافريير الذي ذهب في سبيل وضع مسوغ نظرية أعمال السيادة - إلى القول بأن السلطة التنفيذية تتولى في الواقع وظيفتين أساسيتين هما الحكم والإدارة ، وبناء على ذلك فإن ما تصدره من قرارات وما تتخذه من إجراءات قد تقوم به باعتبارها حكومة ، وقد يصدر عنها بوصفها إدارة ، والطائفة الأولى من الأعمال يغلب عليها الطابع السياسي ، ومن ثم تخرج من رقابة القضاء وتخضع لرقابة الهيئات السياسية ، وهي المجالس النيابية ، فالمبادئ العامة للقانون وطبيعة الأشياء تقضي بضرورة التمييز بين العمل الحكومي والعمل الإداري(2) .
ويقترب من هذا المعني ما ذهب إليه العلامة دوجى من أن أعمال السيادة لا تخضع لرقابة القضاء لأنها تصدر من السلطة التنفيذية لا بوصفها هيئة إدارية وإنما بوصفها هيئة سياسية ، وهي لا تخضع للمحاكم ليس لأنها بطبيعتها تتنافى مع الرقابة القضائية ، بل لأن التنظيم القضائي في الدول المختلفة لم يصل بعد إلى سحب هذه الرقابة عليها ، ولذلك يفضل دوجي تسمية هذه الأعمال بالأعمال السياسية بدلاً من أعمال السيادة(3) .
3 - لجأ بعض الفقهاء - لاسيما بعد عدول القضاء عن تطبيق المعيار السياسي السابق ذكره - إلى وضع مسوغ للنظرية بالاستناد إلى أساس من القانون ، وقد وجد هذا البعض ذلك الأساس في المادة (26) من القانون الصادر في 24-5-1872 المنظم لمجلس الدولة والتي تنص على : 'حق الوزراء في أن يحيلوا الأمر إلى محكمة التنازع بشأن القضايا المرفوعة أمام القسم القضائي بمجلس الدولة والتي تخرج من اختصاصه' ، حيث ذهبوا إلى القول بأن المقصود بالقضايا المذكورة في هذه المادة تلك المتعلقة بأعمال السيادة .
إلا أن اعتبار النص المذكور سنداً قانونياً لنظرية أعمال السيادة أمر محل نظر ، فهذا النص يهدف لإقامة نوع من التوازن بين جهتي القضاء ، وحماية اختصاص القضاء العادي من اعتداء القضاء الإداري عليه ، وأيّا كان تفسير هذا النص فإنه لم ينتقل إلى حيز التطبيق (4) .
4 -ذهب البعض في وضع مسوغ نظرية أعمال السيادة من الوجهة القانونية إلى أن عمل السيادة هو عمل مختلط ، بمعنى أنه ليس صادراً من السلطة التنفيذية وحدها وإنما هو صادر منها في مجال علاقاتها بالسلطات الأخرى التي لا تخضع لرقابة القضاء .
وقد أخذ - بحق- على هذا الرأي قصوره ، حيث أنه تقتصر صلاحيته على القضاء الفرنسي الذي لم يعترف لنفسه حتى الآن بسلطة رقابة دستورية القوانين ، ومن ثم لا يصدق هذا الرأي - حيث يباشر القضاء هذه السلطة - بل يفقد كل قيمته ، وأكثر من ذلك فإن هذا الرأي يعجز - حتى في ظل النظام الفرنسي - عن تفسير خضوع لوائح الإدارة العامة لرقابة القضاء الإداري ، وهي وفقاً للرأي المذكور تعد أعمالاً مختلطة(5) .
5-حاول البعض كذلك وضع مسوغ لنظرية أعمال السيادة بالاستناد إلى بعض الاعتبارات القانونية والعملية ، فقرر أن القانون وسيلة لا غاية في ذاته ، فهو وسيلة للمحافظة على سلامة الدولة وصيانة كيانها ، فإذا كان التمسك به على حساب سلامة الدولة وجبت التضحية به ، إذ أن سلامة الدولة فوق القانون ، ومن ثم وجب الاعتراف للحكام بالخروج على القانون كلما اقتضت الظروف ذلك ، تحقيقاً لتلك الغاية العليا .
ونلاحظ أن هذا الرأي ينطوي على خلط بين نظرية أعمال السيادة ونظرية الضرورة وهما نظريتان متميزتان عن بعضهما ، ذلك أن أعمال السيادة قد تصدر في غير حالات الضرورة ، وحينئذ لا تصلح المسوغات المذكورة كأساس لتدعيم نظرية أعمال السيادة(6) .
6 -يذهب الرأي الراجح في الفقه إلى القول بأن الأساس الحقيقي لعدم اختصاص القضاء بالنظر في أعمال السيادة هو قواعد الاختصاص القضائي ذاتها ، حيث أن هذه الأعمال تخرج من نطاق اختصاص القضاء بجهتيه ، إما لأنها تتصل بعلاقات السلطات العامة ببعضها ، كقرار حل البرلمان وقرارات العفو ، وإما لأنها تتصل بمعاهدات وعلاقات دولية ، وتثير مسائل تدخل في نطاق القانون الدولي كإعلان الحرب ، وهي مسائل لا تدخل في مدلول المنازعات الإدارية التي يختص القضاء الإداري بالفصل فيها ، كما لا تدخل في مدلول منازعات الأفراد التي يختص القضاء العادي بنظرها(7) .
وبعد هذا العرض للآراء التي قيلت في محاولة وضع أساس قانوني لأعمال السيادة يتبين لنا تباين تلك الآراء ويرجع ذلك إلى صعوبة إيجاد أساس قانوني سليم ومسوغ منطقي معقول لنظرية أعمال السيادة ، بسبب مخالفة هذه النظرية لمبدأ المشروعية وسيادة القانون وعدم تلائمها مع المنطق القانوني السليم ، لذلك لا يمكن وضع مسوغ لها إلا بالاستناد إلى الاعتبارات السياسية والعملية .
المبحث الثالث
تقدير نظرية أعمال السيادة
نستعرض في هذا المبحث موقف الفقه من هذه النظرية وذلك في المطلب الأول ، ثم نعرض في المطلب الثاني موقف القضاء من هذه النظرية والتطورات التي طرأت عليها في القضاء .
المطلب الأول
موقف الفقه من نظرية أعمال السيادة
يتفق الفقه على مخالفة نظرية أعمال السيادة لمبدأ المشروعية وسيادة القانون ، حيث أن هذه النظرية تمثل نقطة سوداء في جبين المشروعية كما يرون بأنها تمثل اعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم باعتبارها مانعاً من موانع التقاضي ، بل واعتداء على السلطة القضائية ، وذلك بحجب اختصاصها عن المنازعات التي تثار في شأن أعمال السيادة ، كما أنها تخالف النصوص الدستورية التي تقضي بصيانة وكفالة حق التقاضي للناس كافة .
إلا أن الفقه - رغم اتفاقه على ما سبق - فإنه يختلف وينقسم في مسألة التعامل مع هذه النظرية إلى رأيين :
الرأي الأول(1) : ويذهب أصحابه إلى أنه رغم مخالفة نظرية أعمال السيادة لمبدأ المشروعية واعتداءها على حقوق الأفراد وحرياتهم ومخالفتها للنصوص الدستورية التي تكفل التقاضي للكافة ، ورغم انتقاد هذا الرأي للنظرية ، إلا أنه لا يذهب في نقده لها إلى درجة إنكار وجودها ، فهي حقيقة قانونية واقعية لا يمكن تجاهلها ، لأن إنكار هذه النظرية هو خلط بين الأماني والحقائق القانونية(2) ، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك حينما يرى أنه في وجود هذه النظرية بعض الأهمية للمحافظة على كيان الدولة الداخلي والخارجي(3) .
ويرى أصحاب هذا الرأي أن التعامل مع هذه النظرية يكمن في التوفيق بين اعتبارين : الأول هو ضرورة الإبقاء على نظرية أعمال السيادة ، والثاني هو ضرورة احترام حق التقاضي وكفالته ، ويذهبون إلى أن هذا التوفيق يمكن أن يتحقق إذا ما أخذنا بأمرين :
1 - ضرورة التعويض عن أعمال السيادة ، إذ من الممكن الإبقاء على عمل السيادة دون إلغاء حتى تتحقق الغاية منه ، مع السماح للأفراد الذين قد يصيبهم ضرر من جراء هذا العمل باللجوء إلى القضاء لتعويض الضرر الذي أصابهم ، فالذي يعني الحكومة من عمل السيادة هو بقاؤه قائماً ومنفذاً على الوجه الذي ترتضيه ، ولكن لن يضيرها أن تتحمل الجماعة نتائج عمل السيادة الضارة ، لأن هذا هو النتيجة المنطقية لمبدأ مساواة الأفراد أمام التكاليف العامة ، وبجواز التعويض عن أعمال السيادة يمكن للأفراد اللجوء للقضاء بشأن هذه الأعمال ، ومن ثم لن تعوق هذه الأعمال ممارسة الأفراد لحريتهم في التقاضي بصورة كاملة .
2 - ضرورة حصر أعمال السيادة حصراً دستورياً ، أي في صلب الدستور ، لأن هذه الأعمال لا يمكن إلغاؤها بمعرفة القضاء ، بل فقط من الممكن التعويض عنها كما ذكرنا ، وعدم إمكانية إلغاء هذه الأعمال يعني عدم كفالة حق التقاضي بصورة كاملة ، لأن الأفراد لن يتمكنوا من رفع دعاوى بإلغاء هذه الأعمال ، بل فقط بالتعويض عنها ، ولذلك فإن هذا الانتقاص بحق التقاضي يجب النص عليه في صلب الدستور ، لأن هذا الحق من الحقوق الدستورية المنصوص عليها في صلب الدستور ، وأي انتقاص له يجب النص عليه في الدستور كذلك ، والحصر الدستوري لهذه الأعمال سوف يقيد السلطة التنفيذية في هذا الصدد ، بل إنه سوف يقيد المشرع كذلك ، ولن يستطيع رئيس الدولة أن يصدر قراراً أو مرسوماً بقانون يحصن عمل من الأعمال من رقابة القضاء بحجة كون هذا العمل من أعمال السيادة ، إلا إذا كان هذا العمل من قبيل أعمال السيادة فعلاً المنصوص عليها في صلب الدستور .
الرأي الثاني(4) : يرى أصحابه أن الرأي السابق لا يكفي ، وإنما ينبغي إنكار نظرية أعمال السيادة دون تردد ، لأن الأخذ بمدلول هذه النظرية يمثل امتهاناً لمبدأ المشروعية وسيادة القانون .
وإذا كان المشرع لا يملك تحصين العمل الإداري من رقابة القضاء التزاماً بسيادة القانون ، فإنه ينبغي على السلطة القضائية أن تلتزم في عملها بسيادة القانون ، ومن ثم يجب عليها فحص مشروعية كافة الأعمال الإدارية دون اللجوء إلى نظرية أعمال السيادة .
ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن إضفاء صفة عمل السيادة على أعمال السلطة الحاكمة من شأنه أن يثير الريبة والسخط عليها لموقفها السياسي غير المتفق مع القانون ، فالتمسك بأعمال السيادة يعد أحد العوائق التي تمنع التعبير الصادق عن اتجاهات الشعب والهيئات المنتخبة .
ويؤكد أصحاب هذا الرأي بأن إنكارهم لهذه النظرية ليس إنكاراً لحقيقة قانونية ، لأن النصوص القانونية التي تشير إلى هذه الأعمال - وذلك في القوانين المنظمة للسلطة القضائية - هي نصوص غير دستورية .
كما يضيفون بأن إنكارهم لهذه النظرية ليس خلطاً بين الأماني والحقائق القانونية ، فالحقائق القانونية تفرض علينا الاستناد إلى القواعد القانونية لمعرفة نظام كل عمل تقوم به سلطة من السلطات في الدولة ، وليس في التنظيم القانوني ما يسّوغ وجود أو مشروعية أعمال السيادة كاستثناء على مبدأ المشروعية وعلى اختصاص القضاء بالرقابة القضائية على مشروعيتها .
ومع ذلك ، يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن قواعد الاختصاص القضائي تؤدي إلى إخضاع كافة المنازعات الإدارية لرقابة القضاء الإداري ، وتتصل هذه المنازعات بالأعمال الإدارية - أي بالأعمال الصادرة عن السلطة التنفيذية بصدد وظيفتها الإدارية - أما أعمالها الأخرى المتصلة بالحكم - وهي تلك التي تتعلق بالصلات بين السلطة التنفيذية والسلطات العامة الأخرى الوطنية أو الأجنبية - فإنها تخرج عن نطاق اختصاص القضاء الوطني ، إما لأنها تدخل في دائرة المسئولية السياسية للحكومة أمام البرلمان ، أو لاختصاص القضاء الدولي بنظر المنازعات المتصلة بها .
وعليه فإن إعمال قواعد الاختصاص القضائي من شأنها وحدها أن تحقق إخراج كافة أعمال السيادة المتفق عليها فقهاً - وهي الأعمال المتصلة بالبرلمان وبالعلاقات الدولية - من نطاق اختصاص القضاء بالرقابة على أعمال الإدارة .
أما باقي أعمال السيادة ، فعلاوة على أن تسميتها من أعمال السيادة يعد محل خلاف فقهي ، إلا أن إعمال نظريتي السلطة التقديرية وأعمال الضرورة من شأنه تحقيق الحماية الكافية لأعمال الإدارة وتمكينها من أداء واجبها ورسالتها ووظائفها على أكمل وجه دون التضحية بالحقوق العامة والحريات الفردية والصالح العام .
خلاصة هذا الرأي هو أن كافة أعمال السلطة التنفيذية المتصلة بوظيفتها الإدارية تدخل في اختصاص القضاء بالرقابة عليها ، أما أعمالها المتصلة بوظيفتها الحكومية - وهي الأعمال المتصلة بعلاقة السلطة التنفيذية بالسلطات العامة الأخرى في الدولة أو بعلاقاتها الدولية - فإنها تخرج عن نطاق اختصاص القضاء بالرقابة على مشروعية أعمال الإدارة وفقاً لقواعد الاختصاص القضائي في الدولة ، إما لأنها لا تثير سوى المسئولية السياسية للسلطة التنفيذية أمام البرلمان ، أو لاختصاص القضاء الدولي بذلك دون الجهات القضائية الوطنية ، وتبعاً لذلك فإن القول بوجود طائفة من الأعمال هي أعمال السيادة ، يكون قولاً يجانبه الصواب .
ورغم احترامنا للرأي الأول إلا أنه - في رأينا - يتعامل مع الخطأ بسياسة قبول الأمر الواقع ، ويعمل جاهداً على محاولة تقليص الأضرار والسلبيات الناتجة من قبول وتطبيق نظرية أعمال السيادة .
ونعتقد أن هذه السياسة والتوجه لا تكفي للتعامل مع نظرية أعمال السيادة ، وذلك لفداحة الأخطار التي تترتب على قبول هذه النظرية والاعتراف بها ، حيث أن هذه النظرية تمثل - بإجماع الفقه - إخلالاً خطيراً بمبدأ المشروعية وسيادة القانون ، واعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم ، ومخالفة صريحة لحق التقاضي والنصوص الدستورية التي تكفله .
ولذلك فإننا نؤيد ما ذهب إليه الرأي الثاني من المطالبة بإنكار وجود هذه النظرية وإلغائها من النظام القانوني والاستعاضة عنها بنظريات أخرى مثل السلطة التقديرية ونظرية الضرورة والحالات الاستثنائية ، وإعمال قواعد الاختصاص القضائي ، ففي هذه النظريات ما يكفي من إعطاء الإدارة حرية واسعة في قيامها بأداء واجباتها واختصاصاتها على النحو الذي يكفل لها عدم تعطيلها عن أداء مهامها من ناحية وحماية مبدأ المشروعية وصيانة حقوق الأفراد وحرياتهم من ناحية أخرى المطلب الثاني
موقف القضاء من نظرية أعمال السيادة
ذكرنا فيما سبق أن نظرية أعمال السيادة هي نظرية قضائية الصنع والمنشأ ، حيث ابتكرها مجلس الدولة الفرنسي لظروف سياسية مرتبطة بتلك المرحلة ، إلا أنه بزوال هذه الظروف والاعتبارات كان المتوقع أن يقوم مجلس الدولة الفرنسي بإلغاء هذه النظرية ، إلا أن هذا الأمر لم يحدث ، بل بقيت النظرية قائمة في القضاء الفرنسي ، وقام الفقه بوضع مسوغ لهذا الأمر مفاده أن مجلس الدولة الفرنسي عمل على إبقائها حماية لما قام به من جهود كبيرة في إرساء مبدأ المشروعية وترسيخ أركانه في النظام القانوني .
إلا أن القضاء لم يجار في تطوراته موقف الفقه في هذا الشأن ورغم ذلك فقد قام بالعديد من الأعمال التي تهدف إلى التضييق من نطاق هذه النظرية والحد من آثارها السلبية وذلك كما يلي :
أولا :اعترف القضاء لنفسه بحق تقرير أن عملاً ما يعد من أعمال السيادة ، بمعنى أن القضاء هو صاحب الحق في إلباس ثوب السيادة لأي عمل تقوم به السلطة التنفيذية ، وذلك بعد أن كان يعطي هذا الحق للسلطة التنفيذية نفسها في ظل أخذه بمعيار الباعث السياسي .
وقد أكدت المحكمة الإدارية العليا في مصر هذا الأمر في حكمها الصادر في 10-12-1966(1) حيث تقول : 'الأصل أن معيار التفرقة بين الأعمال الإدارية وبين أعمال السيادة مرده إلى القضاء الذي ترك له المشرع سلطة تقرير الوصف القانوني للعمل المطروح عليه ، وما إذا كان يعد عملاً إدارياً عادياً يختص بنظره ، أو عملاً من أعمال السيادة يمتنع عليه النظر فيه …' .
ثانياً :اتجه القضاء نحو التضييق من دائرة أعمال السيادة ، وذلك بأن أخرج من قائمتها أعمالاً كان من قبل يعدها من أعمال السيادة ، وبدأ يبسط عليها رقابته إلغاءً وتعويضاً ، من ذلك مثلاً - في فرنسا ومصر - قرارات إبعاد الأجانب والإجراءات الإدارية التي تتخذ تبعاً له ، وكذلك القبض على الأفراد(2) .
وباستعراض أحكام القضاء في فرنسا ومصر يمكن أن نقول : إن القضاء قد حصر أعمال السيادة في الطوائف الآتية(3) :
1 - الأعمال المنظمة لعلاقة الحكومة بالبرلمان وبضمان سير السلطات العامة وفقاً للدستور ، ومن هذه الأعمال دعوة الناخبين لانتخاب أعضاء البرلمان ، ودعوة البرلمان للانعقاد ، وتأجيل جلسات البرلمان ، وفض دور الانعقاد ، وحل البرلمان ، ومنها أيضاً استعمال السلطة التنفيذية لحقوقها المتعلقة بالتشريع كاقتراح القوانين أو الاعتراض عليها أو التأخر في إصدارها ، أو سحب مشروع قانون كانت قد تقدمت به ، أو إهمالها في استصدار قانون يتضمن الموافقة على قانون معين ، أو رفض أحد الوزراء طلب اعتمادات مالية من البرلمان … الخ .
2 - الأعمال المتعلقة بسير مرفق التمثيل الدبلوماسي : وفي هذا المجال توجد معظم تطبيقات نظرية أعمال السيادة ، من ذلك القرارات المتعلقة بحماية المواطنين المقيمين في الخارج عن طريق الوسائل الدبلوماسية ، ورفض الدولة التدخل بالطرق الدبلوماسية لمطالبة دولة أجنبية بتعويض أحد المواطنين نتيجة الاعتداء عليه أثناء إقامته في تلك الدولة ، والتعليمات الصادرة من الحكومة لممثليها الدبلوماسيين في الخارج ، كما أن من أهم التطبيقات في هذا الصدد إبرام المعاهدات وما يتعلق بها .
3 - بعض الأعمال المتعلقة بالحرب : وخاصة تلك التي تتم خارج حدود الدولة ومنها الأوامر الصادرة بتغيير اتجاه السفن أو حجزها أو حجز ما تحمله من بضائع ، ومنها أيضاً الحوادث أو التلف الذي ينال السفن في عرض البحر ، وضحايا الغارات والقذائف ، وما ينال المواطنين من أضرار بسبب الحرب خارج نطاق الإقليم .
4 - بعض الأعمال المتعلقة بسلامة الدولة وأمنها الداخلي : ومنها الإجراءات التي تتخذها الإدارة لوقاية الصحة العامة في حال الأوبئة ، وإعلان الأحكام العرفية في حال قيام اضطرابات تهدد سلامة الدولة وأمنها وتحديداً هو مرسوم إعلان الأحكام العرفية ذاته ، ومنها أيضاً بعض إجراءات الضبط التي تتخذ ضد الأجانب لا سيما في حال الحرب ، والإجراءات التي تتخذها الدولة للدفاع عن ائتمانها وماليتها .
ثالثا :اتجه القضاء نحو الحد من الآثار الخطيرة التي تترتب على نظرية أعمال السيادة ، وذلك بقصر هذه الآثار على الحصانة ضد الإلغاء دون التعويض ، وهكذا بدأ القضاء الفرنسي يحكم في قضايا متفرقة بالتعويض عن أعمال السيادة استناداً إلى نظرية تحمل التبعة وإعمالاً لمبدأ مساواة الأفراد أمام الأعباء العامة(4) .
الخلاصة : إن القضاء رغم عدم استجابته للتيار الفقهي الذي ينادي بإنكار وجود نظرية أعمال السيادة ، إلا أن موقفه من هذه النظرية قد لحقه العديد من التطورات الإيجابية التي عملت على تقليص مدى هذه النظرية والحد من آثارها السلبية ، وذلك بالاعتراف لنفسه بحق تكييف عمل السيادة ، وتقليص مدى هذه الأعمال بإخراج العديد من الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية من دائرة أعمال السيادة ، وقبوله مبدأ التعويض عن بعض هذه الأعمال .
ورغم تأييدنا لهذه التطورات الإيجابية في موقف القضاء من نظرية أعمال السيادة ، إلا إننا مازلنا نقف - في صف واحد - مع المطالبين بإلغاء هذه النظرية والاستعاضة عنها بأفكار أخرى كالسلطة التقديرية ونظرية والظروف الاستثنائية ، وإعمال قواعد الاختصاص القضائي .  

ليست هناك تعليقات

يتم التشغيل بواسطة Blogger.