الجماعة المقاولة بالمغرب: الأسس، الممكنات والرهانات تعد اللامركزية نهجا ديمقراطيا يتيح لكيانات محلية تدبير شؤونها الخاصة بواسط...
الجماعة المقاولة بالمغرب: الأسس، الممكنات والرهانات
وفي خضم التحولات الكبرى التي تشهدها
بنيات الدولة وتجدد أدوارها، تعالت الدعوة إلى تطوير النظام اللامركزي الذي يستند
على الشرعية الإدارية والعقلانية والقانونية، وذلك بتبني منظور جديد ومقاربة
مغايرة تتوخى البعد التدبيري، وذلك من خلال ترسيخ مفهوم "إدارة القرب"،
ومنهجية "المقاربة التشاركية".
ولم تخرج الجماعات المحلية بالمغرب
عن هذا المنحى، فبعدما سجلت تطورا من الناحية البنيوية، الذي كان يختلف من فترة
إلى أخرى تبعا لتوجهات الدولة على مستوى التقسيم الإداري والترابي، الذي كانت
تتحكم فيه مجموعة من الاعتبارات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية. وبالموازاة مع
ذلك شهدت وظيفة الجماعات المحلية بالمغرب تطورا تدريجيا[1] منذ 1960 إلى يومنا هذا، بفعل التحولات الكبرى
والمتسارعة التي شهدتها ولا زالت الساحة الوطنية والدولية نتيجة لعولمة الاقتصاد،
وتنقل الرساميل العالمية والطفرة النوعية للمعلومات الرقمية.
ولعل انخراط
المغرب ضمن مسلسل العولمة، حتم عليه التعامل مع هذه المتغيرات بمقاربة سماتها
التدرج والتصاعد والتكييف، وذلك وفقا لخصوصية وطبيعة الوضعية السياسية والاقتصادية
والاجتماعية، المرتبطة بصدور المقتضيات القانونية المنظمة للجماعات المحلية،
وبمستوى التقدم الذي تحقق في الوعي الجماعي بالنظام اللامركزي. فقد عمل التنظيم
الجماعي الأول –ظهير 23 يونيو1960- على استغراس النهج اللامركزي ودعم الديمقراطية
المحلية، بيد أن ظهير 30 شتنبر 1976 إعتبر الجماعات الحضرية والقروية مسؤولة عن
التنمية الاقتصادية والاجتماعية، غير أن ظهير 3 أكتوبر 2002 المتعلق بتنفيذ
القانون رقم[2]78.00،
جاء كخطاب تدبيري من خلال الاختصاصات الممنوحة للمجالس الجماعية، بحيث جعل
اللامركزية تخرج من البعد السياسي الإداري لتغزو فضاء الاقتصاد، وتصبح الجماعة
كمقاولة بامتياز كما أريد لها من خلال الخطاب الرسمي[3].
ومن هذا
المنطلق، يعتبر التدبير المحلي مجالا خصبا يمنح فرصا لتطوير طرق التدبير التقليدية
للشأن العمومي المحلي، فتطبيق "المقاربة التدبيرية" “Approche managerielle" على هذا المستوى، أصبح ضروريا لتمكين
الجماعة المحلية من الآليات الكفيلة بتحقيق دورها التنموي. وتحقيق هذا المطلب
يعتمد على الذات، الذي يرتكز على المقاولة، والتي بدونها لا يمكن الحديث عن تراكم
اقتصادي أو تكوين رأسمالي، وليست المقاولة الكبرى التي تتجلى في الدولة، ولكن
المقاولة بمفهومها الحديث التي تتجلى في مقاولة الجماعات المحلية في إطار البلدية[4]،
حيث أن النظريات الاقتصادية الحديثة تأخذ بعين اﻹعتبار الإطار الاقتصادي المحلي،
كعنصر أساسي للتحليل الاقتصادي ولتطبيق المخططات الاقتصادية. ولأجل ذلك، فقد أصبحت
الجماعات الحضرية والقروية المنشط الرئيسي للدورة الاقتصادية على الصعيد المحلي،
وإحدى الميادين والمجالات التي أضحى علم الاقتصاد يهتم بها من كل الجوانب المرتبطة
بالمجال الاقتصادي.
انطلاقا من المعطيات السابقة، يتبين
لنا أهمية الموضوع، حيث أن الحاجة أصبحت أكثر إلحاحا في تغيير مقاربة الدولة
للجماعات المحلية كوحدات ترابية إدارية، إلى جماعات اقتصادية تنافسية، تقوم بتنشيط
الدورة الاقتصادية المحلية، وكأحد الشركاء الرئيسيين للدولة، في المبادرات الكبرى
وإنعاش الاستثمارات وحل المشاكل الاجتماعية. وهكذا، فقد أصبحت الجماعات المحلية
كقطب اقتصادي مهم، يساهم في دعم الاقتصاد المحلي، وفاعل أساسي ليس فقط في مجال
نفوذها، بل تعدتها إلى المشاركة في المبادرات التنموية الكبرى، ويتعلق الأمر هنا
بالمبادرة الملكية التي أطلق عليها اسم "المبادرة الوطنية للتنمية
البشرية"، التي تهدف إلى تحسين الوضع الاجتماعي للمواطنين سواء عن طريق
التدخلات الميدانية أو عن طريق الدعم المالي.
وفي سياق آخر، أضحت التحديات
التنافسية التي أفرزتها العولمة، بمثابة المدخل الرئيسي للإصلاح والتغيير على جميع
المستويات، ولأجل ذلك أصبح المغرب مدعوا لتأهيل وتحديث اقتصاده، الشيء الذي دفعه
إلى توقيع عدة اتفاقيات تجارية، إما في شكل ثنائي كاتفاقيات التبادل الحر، وإما في
إطار متعدد الأطراف مع اﻹتحاد الأوروبي
على سبيل المثال. وما من شك أن هذه اﻹتفاقيات ستحدث عدة التزامات تمتد حتى على
مستوى تدبير الشأن العام المحلي، لذلك فقد قاربت الدولة هذا الموضوع وفق منظور
تشاركي تعاقدي، تساهم فيه الجماعات المحلية التي أضحت رائدة في الميدان التنموي
المحلي[5].
فالعولمة بتداعياتها
المختلفة إذن، تفرض المرور من الدولة القوية إلى الدولة الإستراتيجية، الذكية[6]،
التي تخول لنفسها وسائل من أجل
التموقع والتقييم والتدبير والضبط والتحديث. وبذلك يمكن القول، بأنه إذا كانت
الدولة قوية بمركزيتها فإنها أكثر صلابة بانفتاحها على محيطها[7] الذي تمثله الجماعات
المحلية. وعليه فإن الدور السياسي الذي تلعبه هذه الأخيرة من خلال اعتبارها مدرسة
لممارسة الديمقراطية المحلية، ومشاركة السكان في
اتخاذ القرار المحلي، والانفتاح على المجتمع المحلي، يجسد بعمق تحولها للعب دور
الشريك والمساهم والمحاور في تلك التفاعلات، وأصبح لها من الوظائف الجديدة ما
يؤهلها للبروز كجماعة مقاولة، تسخر كافة الإمكانيات في سبيل جلب العملة الصعبة
بواسطة استقطاب الاستثمارات الأجنبية عبر تسويق مجالها الترابي، مستغلة في ذلك كل
التقنيات الحديثة للإعلام والتواصل. غير
أنه لتحقيق هذه القفزة النوعية، فمن الضروري تغيير طريقة تسيير الشأن العام المحلي
وذلك بالانتقال من النظرة التسييرية الضيقة إلى المقاربة التدبيرية الحديثة
والمتجددة.
وقبل الخوض في ثنايا المقاربة
الجديدة للتدبير المحلي، يتعين الوقوف عند بعض الجوانب المفاهيمية للموضوع، ولعل
أبرزها مفهومي التدبير ومفهوم الجماعة المقاولة. فمفهوم التدبير يتجاوز اعتباره
تقنية حديثة في إدارة المقاولات بصفة عامة، إلى إعتباره فلسفة جديدة استوحيت من
التطورات التقنية والاقتصادية، وضرورة التكييف معها، فهو كيفية جديدة يستغل بها
العقل، وتمرين جديد للبنيات. فالتدبير هو عملية معقدة تكمن في تحويل الموارد
البشرية والتقنية، ورؤوس الأموال إلى مقاولة فعالة. التدبيرإذن، هو مرحلة متقدمة
في مجال التسيير، على اعتبار أن مدلوله لا يتوقف عند مجرد الاهتمام بمجال التسيير، بل يشمل
مجموع تقنيات التنظيم والتسيير داخل المنظمة في أفق تدعيم مقومات المردودية.
فالتدبير يفيد معنى التنظيم[8] وإدارة شأن المقاولة، بينما
التدبير المقاولاتي فيعني تقنيات التنظيم والتدبير والتسيير والاستثمار في مشاربع
مقاولاتية[9].
وقد اكتسحت كلمة التدبير « management » الأدبيات اللاتينية، لتحل محل كلمة التسيير
بالنظر للتأثير الذي أخذت تمارسه الأدبيات الأنجلوساكسونية ذات المقاربة الشمولية
في التعامل مع القيادة والإدارة[10]،
غير أن المقصود بالتدبير يختلف من المدرسة الفرنسية إلى المدرسة الأنجلوساكسونية.
بحيث تحيل كلمة تدبير Gestion حسب المدرسة الفرنسية، على مجموع الوسائل المعتمدة والقواعد
والإجراءات القانونية الواجب الإلتزام بها عند مزاولة مهمة التدبير، وهو بهذا
المعنى له بعد أحادي هو المطابقة Conformité، عكس مفهوم التدبير لدى المدرسة الأنجلوساكسونية،
فهو رباعي الأبعاد، المطابقة Conformité، الاقتصاد Economie، الفعالية Efficacité، النجاعة Efficience. فهذه المدرسة، تعتبر التدبير
مجموع المعارف التي تهتم بتنظيم وتدبير المقاولة ثم كيفية تطبيق هذه المعارف على
عملية تجارية أو مقاولاتية، بالإضافة إلى قيادة إدارة عملية التدبير، وبالتالي
فالمدرسة الأنجلوساكسونية يحيل التدبير فيها على مفهوم واسع، يأخذ بعين الاعتبار
تأثير المحيط الداخلي والخارجي على المنظمة[11].
وقد تطور مفهوم التدبير بفضل تقدم
الأبحاث العلمية في هذا المجال، بحيث بقيت تتجاذبه نظريات علماء الإدارة[12]،
وفق منطق الليبرالية الجديدة، التي تعتمد على الإنفتاح والتشارك، والاندماج
والحكامة، بحيث أصبحت الممارسة الإدارية تفرض المزاوجة بين علم وفن الإدارة، لإعطاء
التدبير فلسفة جديدة وخاصة. وبناء على ذلك، يمكن تقديم تعريف للتدبير على״أنه تفعيل أنشطة أو خدمات مختلفة ومتنوعة باستعمال
الموارد البشرية اللازمة والمتخصصة في شتى ميادين الحياة، استنادا إلى تخطيط مسبق،
ووفق إنجاز محكم، ومراقبة آنية و بعدية، بناء على منهجية معقلنة وتحفيز مستمر لتلك
الموارد البشرية״[13]. فمن خلال هذا التعريف يمكن إستخراج مقومات وأركان التدبير وهي التخطيط،
التنظيم، التحفيز، المراقبة التي تطبق في جميع الحالات سواء داخل المنظمات
الإدارية، أو الوحدات المهنية، مهما اختلفت توجهاتها وأهدافها ومهما كان حجم
وتكلفة برنامج عملها ومخططاتها[14].
يعد التخطيط الركيزة الأولى للتدبير،
وهو عملية ذهنية إبداعية تعمل على رسم الأهداف والتوجهات المراد إتباعها لإنجاز قانونما،
ثم نهج أسلوب علمي لدراسة كل المعلومات والبيانات لإتخاذ القرارات اللازمة لتحقيق
أهداف المنظمة[15].
وهناك أنواع متعددة للتخطيط لكن التخطيط الإستراتيجي التشاركي أكثرها استعمالا
ويسمح هذا النوع من التخطيط[16].
§ بكشف
الحاجيات الآنية والمستقبلية، والتنبؤ بالتغيرات، ثم تحديد رؤيا مشتركة للمستقبل.
§ كما
يعتبر التخطيط الإستراتيجي التشاركي، مقاربة لتحسين التدبير من خلال التنسيق،
وتدبير المدخلات، والتتبع وفق مؤثرات قابلة للمعاينة والقياس.
§ طريقة
عمل تسهل وتوجه الحوار مع جميع المعنين بالأمر، إنه يقدم إطار للتشاور حول آفاق
التنمية بطريقة تشاركية.
§هو
مقاربة لتحسين التواصل بين الشركاء والسكان حول الأهداف الإستراتيجية.
أما الوظيفة الثانية التي تلي
التخطيط فهي التنظيم، ويعتمد على مجموعة من القواعد والسبل التي تستعمل للتتبع
العقلاني، لما تم التخطيط له بهدف الإنتاجية والمردودية، وذلك بتوزيع العمل بكيفية
محكمة بين أعضاء المنظمة، وتحديد
الارتباطات والعلاقات التي تجمع بين الأفراد لبلوغ الأهداف المتوخاة في الزمان
والمكان المحددين سلفا، وتقييم الكلفة والمنتوج. والتنظيم هو عمل موكول بدرجة أولى
إلى القائد أو المدير أو الرئيس حسب نوع المنظمة وموقعها وحجمها. أما الركن الثالث
للتدبير، فيتعلق بالتحفيز أو وظيفة الدفع، ويعني الحرص على أن يقوم كل فرد بإنجاز
الأشغال الموكولة إليه، بكل تلقائية وإرادة قوية كل حسب تخصصه، وهو يشعر بأهمية
مساهمته الشخصية في إنجاح القانونأو بلوغ الهدف المنشود، وبذلك فالتحفيز هو "مجموعة
من المؤثرات الداخلية والخارجية التي تدفع بالأفراد لإشباع حاجاتهم المتعددة من
خلال إقدامهم على تصرفات وسلوكيات معينة"[17].
فالفرد عنصر مهم داخل المنظمة، وبالتحفيز يعمل على تلبية حاجيات المنظمة وحاجياته
الذاتية[18].
بالإضافة لهذه الوظائف، هناك وظيفة
المراقبة التي تكمن في فحص ومراجعة كيفية تنفيذ الأشغال، من حيث إنجازها وفق
الضوابط المتعارف عليها، وحسب التصاميم الموضوعة طبقا للنهج المتفق عليه مسبقا،
وعملا بتقنيات وميكانزمات معينة في مجال المحاسبة و شتى مجالات التنفيذ والتتبع.
إذن، فبدون ممارسة هذه الوظائف لا يمكن
أن نصل إلى إنجاز أي قانونبالمفهوم التقني للتدبير المحكم؛ بحيث أصبحت الفعالية
مطلبا ملحا، لاسيما أن الفرد المتعامل مع الإدارة لم يعد يرغب في أن يكون خاضعا،
بل معترفا به كشريك وزبون، يمكن أن يتساءل حول جودة المنتوج الذي يجب على الإدارة
أن تقترحه لا أن تفرضه، هذا الأمر لن يتأتى إلا بتبني التدبير التشاركي كأنجع
أسلوب لتحقيق مطلب الجودة على مستوى اتخاذ القرارت.
تأسيسا على ما سبق، وجدت الجماعات
المحلية نفسها مدعوة لكي تتحمل مسؤولية التأسيس لاقتصاد محلي والعمل على تنشيطه،
لا سيما في ظل تراجع دور الدولة وتزايد دور السوق في هيكلة المجال الاقتصادي، تحت
تأثير تحولات في المرجعية والأنساق الاقتصادية العالمية، حيث أضفى هذا الوضع الجديد أعباء ومسؤوليات
ومهاما جديدة على عاتق الجماعات المحلية، وتزايد الطلبات الاقتصادية والاجتماعية
الموجهة لها[19].
وفي خضم هذه التطورات، كان لازما
التوجه نحو التفكير في إصدار إطار قانوني جديد يواكب ما تعرفه الجماعات المحلية من
تحول، ويعطي للجماعات الحضرية والقروية صفة الجماعة المقاولة للألفية الثالثة من
جهة، ولتكون الجماعة المقاولة بمثابة
الإجابة الصحيحة عن إشكالية التنمية المحلية من جهة ثانية. هذا ما تبين من خلال
قانون 78.00 المتعلق بالميثاق الجماعي لسنة 2002، الذي قارب المشرع المغربي من
خلاله مجموعة من المفاهيم الجديدة، تجسد مباديء سياسة القرب، وتؤسس لمرجعية
الحكامة الجيدة، واضعا بذلك إطارا لتدبير
مقاولاتي فعال[20].
إن تدشين الميثاق الجماعي لسنة 2002
لعهد الجماعة المقاولة، يدخل ضمن الرؤيا الإستراتيجية والشمولية لتأمين تحقيق
التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالجماعة المقاولة بما تحيل عليه من استثمار- في
الموارد المالية والبشرية-، تحديد الرؤيا الإستراتيجية، إنجاز مخطط استراتيجي،
إدخال عنصر الجودة على مستوى الخدمات، تسويق ترابي، الاشتغال بالتقنيات الحديثة
للتنظيم والتدبير والمراقبة،... الخ، ستمكن من رسم معالم المسار التنموي بشكل صحيح
وتدبير عصري وفعال[21]،
سيمكن من تجاوز الطريقة التقليدية لممارسة التدبير المحلي على مستوى الجماعات
الحضرية والقروية، التي لم تستطع النهوض بدورها التنموي، كما أن سبب تخلف جماعاتنا
لا يرجع بالدرجة الأولى إلى ضعف الوسائل – المالية والبشرية- وإنما يرجع إلى قصور
الرؤيا الإستراتيجية لدى المدبر المحلي، ثم إلى الكيفية التي يتم بها تصريف الشأن
العام المحلي. وعلى هذا الأساس، تقوم الجماعة المقاولة بانجاز مشاريع تنموية تدر
عليها مداخيل مالية، تستفيد منها خزينة الجماعة، لكن لا تتصرف فيها كتصرف التاجر
أو المساهمين في الشركة التجارية، وإنما تعيد استثمارها في مشاريع وأعمال أخرى لا
يهتم بها القطاع الخاص لعدم مردوديتها الربحية.
ومن أجل
تحديد مفهوم الجماعة المقاولة، فإننا لا نقصد بذلك أن تصبح الجماعة كالمقاولة
بمفهومها الضيق، كون أن الجماعة تتوفر على أهداف اجتماعية واقتصادية وثقافية محددة،
وترمي إلى تحقيق الصالح العام، في حين أن المقاولة لها هدف وحيد هو تحقيق الربح
المادي. وبالتالي فان مفهوم الجماعة المقاولة يتجاوز المفهوم الشكلي للجماعة
كجهاز، ليقوم بالتركيز على طبيعة النشاط الذي تقوم هذه الأخيرة بمنظور مقاولاتي،
أي ينظر إلى الكيفية التي يتم بها إنجاز المهام الموكولة للجماعات الحضرية
والقروية. فالجماعة المقاولة هي تلك الجماعة التي تتمكن من وضع وتحديد الرؤيا
لتحقيق أهدافها التنموية في إطار مخطط استراتيجي، بتوظيفها لمجموع الوسائل
والآليات التدبيرية الحديثة التي تكفل النجاح للمقاولة في القطاع الخاص، سواء من
حيث نظامها الإداري والتنظيمي، أو من حيث مواردها المالية ورأسمالها البشري.
إن ربح
رهان الجماعة المقاولة، يقتضي منا على المستوى اﻹبستمولوجي الانطلاق من المقترب
القانوني، المعتمد على الجمع الكمي والوصفي للظاهرة المدروسة، ثم الوصول إلى مقترب
تدبيري حديث، يتفاعل مع الظاهرة كبنية يقتضي تفكيكها وفهمها أولا، لفهم ميكانزمات
اشتغالها، وإعادة تركيبها ثانيا وفق ما يخدم إستراتيجية التنمية، أي جعلها قابلة
لتبني آلية الحكامة الجيدة في التدبير المحلي. كما أن ربح هذا الرهان، يعتمد على
مجموعة من الشروط الموضوعية – توفير وتدبير الوسائل المالية والبشرية- والذاتية،
وذلك من خلال الرفع من مستوى المنتخب الجماعي، لأن الجماعة المقاولة تحتاج إلى
رئيس جماعي بمواصفات المقاول الناجح، الذي يسهرعلى تسير جماعته بطرق حديثة وراقية
في إطار التدبير التشاركي، ومبرر ذلك كون الجماعة أصبحت تتعامل في إطار شراكات
وتعاقدات مع مقاولات وشركات وطنية وعالمية، والتدبير المفوض على سبيل المثال.
وتعتبر
المحددات القانونية والبشرية والمادية، العنصر الأساسي للتدبير المقاولاتي، وإضافة إلى ذلك، فإن الجماعة المقاولة تحتاج إلى مقومات نوعية جديدة ترسخ الحكامة
الجيدة. ويمكن الإشارة على وجه الخصوص إلى الشفافية والتواصل والإدارة الالكترونية
وتبسيط المساطر الإدارية، كما تشكل الدعامات ذات الطبيعة الرقابية من بين
الإجراءات المهمة التي تساعد في تحقيق تدبير مقاولاتي فعال، حيث تسمح بتتبع وتقييم
العمل المحلي من حيث معرفة مظاهر القوة والضعف التي تمكن من تحديد مستوى أداء
الجماعة المقاولة.
إن اختيارنا لموضوع الجماعة المقاولة لم يكن
اختيارا اعتباطيا، وإنما كان اختيارا دقيقا ونابعا من صلب إهتماماتنا الشخصية
بإشكالية التنمية المحلية عموما، والبحث عن مسبباتها - الذاتية والموضوعية-
وتداعياتها المختلفة التي أضرت بالمسار التنموي. لهذا كان لازما البحث في طريقة
نتجاوز بها النظرية الضيقة والتقليدية لتسيير الجماعات الحضرية والقروية، إلى
نظرية عصرية تتخذ من المقتربات التدبيرية الحديثة والمقومات النوعية لها مرجعا
مؤسسا لتدبير مقاولاتي فعال. هذا بالاضافة إلى محدد موضوعي كان وراء اختيارنا
للموضوع، ويرتبط أساسا براهنية الحديث عن الجماعة المقاولة، كنقاش طرح مجموعة من
اﻹشكاليات والسجالات بين مجموعة من الباحثين والفاعلين، كما أن هذا البحث يأتي
كنتاج ومحصلة لسنوات البحث والتكوين في وحدة "تدبير اﻹدارة المحلية".
أما فيما يخص صعوبات البحث، فهي بمثابة الشروط الموضوعية ﻹنجازأي بحث علمي، والتي
غالبا ما تتحول إلى تحدي وإصرار بالنسبة للباحث ﻹتمام عمله.
تأسيسا على
ما سبق، تتبين لنا الملامح الأولى لعناصر الإشكالية المراد تحليلها في هذا البحث،
وعليه نطرح مجموعة من التساؤلات التالية:
§
إلى أي حد يمكن الحديث عن التدبير الجماعي في إطار مفهوم
الجماعة المقاولة ؟.
§
كيف يمكن تحقيق تدبير مقاولاتي فاعل وفعال؟.
§
هل لدينا الشروط الذاتية والموضوعية الكفيلة بتحقيق
ذلك؟.
§ هل أوجدنا البنى الحقيقية لممارسة هذا التدبير؟.
§ هل الآليات المرتبطة بالتدبير المحلي بإمكانها حل
إشكالية التنمية والتدخل الاقتصادي، أم أن تعقيدات مظاهر التسيير للجماعات، وتزايد
حاجيات السكان، تدفع إلى التفكير في آليات أخرى كالشراكات المختلفة سواء مع
الإدارات العمومية أو القطاع الخاص والمجتمع المدني؟.
كل هذه التساؤلات إذن، تتمحورحول الاشكالية
الرئيسية للموضوع وهي:
§ إلى أي مدى يمكن تفعيل التدبير المقاولاتي داخل الجماعات الحضرية والقروية
في ظل التحديات التي تطرحها العولمة؟،
هذه الإشكالية تجعلنا نطرح مجموعة من الأسئلة الفرعية، والتي نعتمدها
كمنطلقات للبحث: هل الميثاق الجماعي لسنة 2002 كرس فعلا خطاب الجماعة المقاولة؟،
§ ماهي
الآليات التدخلية للجماعة المقاولة؟،
§ الى
أي حد تساهم الجماعة المقاولة في دعم الاقتصاد المحلي؟،
§ ما
هي المقومات النوعية للتدبير المالي من
جهة؟، وتدبير الرأسمال البشري للجماعة المقاولة من
جهة ثانية؟.
للإجابة
على الإشكالية الرئيسية والإشكاليات الفرعية والمتسمة بتشعب محاورها نظرا لتنوع
حقول المعرفة التي تشكل منطلقاتها، وجب الإستعانة ببعض مناهج البحث التي من شأنها
الإسهام في تحديد الإشكالية والإحاطة بمختلف جوانب الموضوع. ولهذه الغاية، فقد عملنا
على توظيف مجموعة من المناهج، منها المنهج الوصفي التحليلي، الذي يعتمد على
المقاربة النصية لمختلف المقتضيات القانونية ذات الصلة بالموضوع، سواء بشكل مباشر
كالنصوص المنظمة للجماعات الحضرية والقروية، أو بشكل غير مباشر، كالقوانين المؤطرة
للمالية المحلية والموارد البشرية والصفقات...،
لكن مع دراسة الأسباب والدوافع ومختلف العوامل المؤطرة في فعل الجماعات
الحضرية والقروية. بالاضافة إلى المنهج الوظيفي، الذي رصدنا من خلاله النقلة
النوعية لوظيفة الجماعات الحضرية والقروية، كبنيات مؤسساتية متفتحة على مختلف
التحولات داخل المحيط الداخلي والخارجي.
[1] - Mechrafi Amal: autonomie et développement local dans la nouvelle
charte communale, in REMALD, série «thèmes actuels», Nْº44, 2003, p:
17.
[2] - ظهير شريف رقم 1.02.297
صادر في رجب 1423/3 أكتوبر 2002، بتنفيذ القانون رقم 78.00 المتعلق بالميثاق
الجماعي، جريدة رسمية عدد 5058، بتاريخ 21 نونبر 2002.
[3] -« فعلينا أن ننظر إلى تسيير
الجماعة المحلية بعين ذلك المسير للمقاولات عين يقظة وجدية « خطاب جلالة المغفور له الحسن الثاني بمناسبة افتتاح المناظرة السابعة
للجماعات المحلية الدار البيضاء، 19- 21 أكتوبر1998.
[4]- عبد الله شنفار: الإدارة
المغربية ومتطلبات التنمية، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية
والتنمية، سلسلة « مؤلفات جامعية»، العدد 19، 2000، ص- 186.
[5] - "....كان لزاما على مدننا
التوجه نحو نظام يمكن من فتح المجال لمبادرات،
تقوم على مقاربة تعاقدية وتشاركية، بين الدولة والمدن، ومن انخراط مختلف
الفعاليات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، وإشراك المواطنين في مختلف مراحل
انجاز البرامج المحلية...." مقتطف من خطاب جلالة الملك محمد السادس، الموجه
الى المشاركين في الملتقى الوطني حول الجماعات المحلية بأكادير، جريدة الصحراء المغربية، العدد: 6523، 13 دجنبر
2006.
[7] - خالد الناصيري: الإدارة
العمومية بين إشكالية المضمون ومتطلبات التجديد،
منشورات مجموعة البحث في المجال والتراب،
تحت إشراف علي السدجاري، سنة 2000،
ص- 81.
[8] - Petit Ropert, P- 865.
[9] - Petit Ropert, P- 1142.
[10] - محمد حيمود: إشكالية تقييم التدبير المحلي مقاربة نقذية على ضوء
التوجهات الرقابية الحديثة، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة الحسن
الثاني، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، عين الشق البيضاء،السنة
الجامعية،2001 /2002، ص- 5.
[11]-
يقصد بالمنظمة الإدارية في بلدان الشرق الأوسط، وهي مشتقة من التنظيم، وهي
كل مقاولة صناعية أو تجارية أو مؤسسة عمومية أو شبه عمومية.
[12]- كامل بربر: الإدارة عملية ونظام، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،
الطبعة الأولى 1996، ص- 14.
[13]- آمحمد الإدريسي: الأركان الأساسية للتدبير، طباعة فيدبرانت، طبعة 2004، ص- 11.
[14]- آمحمد الإدريسي: مرجع سابق،
ص-31.
[15]- كامل بربر: مر جع سابق، ص- 62.
[16]- دليل عملي للتخطيط
الاستراتيجي التشاركي والميزنة المتعددة السنوات للاستثمار، الوكالة الأمريكية
للتنمية الدولية، وزارة الداخلية، المديرية العامة الجماعات المحلية، دجنبر 2003 ص:1-2.
[17]- حسن إبراهيم بلوط: إدارة الموارد
البشرية من منظور إستراتيجي، منشورات دار النهضة العربية، بيروت الطبعة الأولى،
2002، ص- 63.
[18]- من أهم النظريات التي عالجت
الحاجيات الإنسانية، نجد نظرية ماسلو التي تعتبر أن الحاجيات هي التي تحرك سلوك
الفرد، وتم ترتيبها كالتالي، الحاجيات الفيزيولوجية (المأكل والمشرب)، الحاجة إلى
الطمأنينة والأمن، الحاجات الاجتماعية (الحب والتعاطف والانتماء في علاقة الفرد
بغيره)، حاجة التقدير، الحاجة إلى الانجاز و إثبات الذات.
[19]- عبد الرحمان العمراني: المنتخب والمحيط العام والإدارة المحلية،
منشورات مجلة القانون والاقتصاد، عدد15، 1998، ص- 38.
[20] - وقد كانت هذه الطموحات مثار
نقاش بين الفاعلين السياسيين والاقتصاديين بمناسبة المناظرة الوطنية السابعة
للجماعات المحلية، المنعقد ة بالدار
البيضاء بين 19 و 21 أكتوبر تحت شعار "اللامركزية واللاتمركز".
[21] - ".....لتقييم ما تحقق من انجازات، وبرامج تنموية متكاملة، ورصد مكامن الخلل في
تدبيرها، وكذا التفكير في أنماط جديدة من
التسيير، تمكنها من رفع تحديات العولمة
والتنافسية الدولية للمدن..."، مقتطف
من خطاب جلالة الملك محمد السادس، الموجه إلى المشاركين في الملتقى الوطني حول
الجماعات المحلية بأكادير، جريدة الصحراء
المغربية، العدد: 6523، 13 دجنبر 2006.
ليست هناك تعليقات