ماهية مفهوم الالتقائية وتعريفه على ضوء التجربة المغربية
ماهية مفهوم الالتقائية وتعريفه على ضوء التجربة المغربية
العثماني العاقل
دكتوراه في السياسات العمومية
إن دراسة ماهية مفهوم الالتقائية وأبعاده وتجلياته يشكل تحديا وإشكالا حقيقيا،
نظرا للغموض الذي يلف المفهوم مند نشأته، فغالبا ما يتم استحضاره في توصيف
السياسات والاستراتيجيات الواجب اتباعها للوصول إلى الغايات والأهداف المرجوة، دون
إعطاء الأهمية للجوانب المتعلقة ببنائه وتأصيله وتحديد تعريف دقيق وواضح له،
فالنقاش العمومي المرتبط بمفهوم الالتقائية على المستوى الوطني، ظل دائما يتمحور
حول دوره وتأثيره في خلق الاندماج وتكامل السياسات العمومية، بشكل عام، دون تحديد
الأشكال والصور التي يمكن من خلالها الوصول إلى تحقيق هذا المبتغى وهو ما دفعنا
لنتناول بعض التعاريف الواردة في المعاجم اللغوية، لذا سنحاول التطرق لهذا الجانب
لإجلاء بعض الغموض والتعميم الذي يلفه، إيمانا منا بضرورة وأهمية هذه الخطوة لتأصيل دراستنا هاته.
أولا- تعريف مفهوم الالتقائية
يعود أصل تسمية الالتقائية إلى اللاتينية (la convergence) (*)[1]، والتي أطلقت
عليه في البداية للدلالة على بعض تقاطعات في المجال العلمي، لا سيما في علم الفيزياء
والكمياء والرياضيات وذلك من خلال الحديث عن نقط الالتقاء التي تجسد الهدف المشترك[2]، مشكلة
بذلك ظواهر أخرى جديدة تشكل محور دراستنا هاته، وقد أخذت المعاجم اللغوية بالجانب
الشكلي للمفهوم دون الخوض في تفسير وشرح مفهومه الإصلاحي والذي يظل غامضا إلى
اليوم، بينما حاول بعض الباحثين دراسة الانعكاسات الإيجابية لتطبيق مفهوم
الالتقائية.
أ- تعاريف المعاجم اللغوية
أسندت المعاجم اللغوية مجموعة من التعاريف لكلمة "الالتقائية"، فمعجم لاروس (Larousse) يعرفها على أنها تعبر عن اتجاه مشترك نحو نفس النقطة أي هدف مشترك، وهذا المعنى يتفق تماما مع المعنى العام لكلمة الالتقائية في النقاش العمومي ويميز في تعريفه للكلمة بين ثلاث أشكال من الالتقائية، فالشكل الأول يمثل في التقاء مستقيمين في نقطة واحدة والشكل الثاني يمثله في التقاء الأهداف التي تتطلب التقاء الجهود فيما يعتبر الشكل الثالث من الالتقائية أن هناك نقاط متعددة للالتقاء[3]، أما معجم (le petit Larousse)[4] فيعرف الالتقائية بكونها عملية لإحداث التقارب بين المناطق والشعوب من أجل تحقيق هدف واحد وكذلك تقارب الأفكار والقوى والثقافات، أما معجم روبير المتوسط، فيعرفها بكونها التقاء خطين في نقطة، تقود عمليا إلى تحقيق نتائج مشتركة[5]، ويعرفها معجم le petit Robert بكونها مفهوم استعمل في أواسط القرن 18 في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، للدلالة على تحقيق التواصل وربط العلاقات وتوحيد الآراء والأفكار، فالالتقائية ليست توصيفا لتقاطعات هندسية فقط، وانما سيرورة لنظام متكامل يبتغي تواصل كل عناصره بهدف تحقيق الغايات والأهداف المشتركة، أما le grand Robert فيعرف الالتقائية بكونها التنسيق الهادف إلى تأمين انسجام الأنشطة المختلفة بهاجس تحقيق الفعالية، أما معجم الأكاديمية الفرنسية فيعرفها بكونها مفهوم هندسي يعبر عن التقارب التدريجي لمستقيمين للالتقاء في نقطة مشتركة[6]، بينما يختلف منجد الطلاب قليلا في تعريفه "الالتقائية"، حيث يعرفها على أنها من اللقاء وهو مكان اللقاء والمقابلة (ويمكن تفسيره بنقطة الالتقاء)، فيقال جلس تلقاءه أي اتجاهـه، وفعل الأمر من تلقاء نفسه، أي من عند نفسه غير مسوق إليه، أو مُكْره عليه[7]، فالالتقائية تعبير عن إرادة تجسيد فعل مشترك وليست اجبار عليه، لكون أساس الالتقائية يكون فيه ميول لتحقيق نتائج مماثلة بالنسبة لمختلف المتدخلين[8]، بالاعتماد على قاعدة توجيه وتركيز الجهود في نقط مشتركة.
ب- تعاريف بعض الباحثين والمفكرين
يؤرخ مفهوما التحديث والعصرنة، للتحول العميق في الأنظمة الاقتصادية ومنها على
الخصوص التحول من النظام الاقطاعي إلى النظام الرأسمالي، تقوم على فلسفة تحليلية
مبتكرة [9]، ويندرج
مفهوم الالتقائية ضمن هذا السياق، حيث يعرف "Guy CANI VE" الالتقائية بكونها من المفاهيم التي يصعب
تأطيرها في القاموس القانوني الفرنسي، فغالبا ما يتم استحضارها لتشبه تقارب
والتقاء مستقيمين في الرياضيات، وقياسا على ذلك فالالتقائية هي حركة عنصرين، أو
أكثر نحو هدف مشترك[10]، فيما
يعرفها "كلارك كير Clark Kerr" بكونها تجسد ميل المجتمعات للعمل المشترك لتحقيق نمو متوازي
عبر تطوير أدوات العمل وجعلها متشابهة ومتقاربة، كما يعتبرها من المفاهيم الأكثر
تداولا بين الباحثين في مجال السياسات العمومية، لدلالاتها في التوصيف الدقيق
للواقع الاقتصادي والاجتماعي، أما " Catherine Fuss "، فتعتبر أن هناك التقائية
عندما يتقلص الفرق بين متتاليات إحصائية عبر الزمن[11]،
فتقترب من بعضها البعض بشكل تدريجي، أما "Jan Tinbergen"[12]،
فأوضح أن الاقتصادين الاشتراكي والرأسمالي يتجهان حتما في نفس المنحى ويتميزان
بنفس الأنماط، السلوك، والتفكير حيث يسعى كل منهما إلى توظيف الوسائل والإمكانيات
المتاحة لبلورة تصورات ناجعة بهدف تحقيق نتائج مرضية[13]، وهو
ذاته التوجه الذي أعتمده "بوني Bonnette" في دراسته المرتبطة بالإلتقائية
من خلال العلوم السياسية، فعتبر أن الاقتصادين الاشتراكي والرأسمالي يسيران في نفس
المنحى[14] وأن إدماج
عناصرهما في إطار رؤية مندمجة من شأنها المساهمة في تقليص الفوارق الاقتصادية على
الرغم من اختلاف الرؤى وفلسفة الاقتصادين، لكن هذه النظرة لم تقدم جديدا لكونها
أغفلت جوانب أخرى ذات أهمية وتأثير بالغ في تحقيق الالتقائية، خصوصا منها القانونية،
الإدارية، الثقافية والاجتماعية والتي سنحاول الإحاطة بها لاحقا.
ثانيا - تعريف
الالتقائية من منظور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية
لقد تبنت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مند انطلاقتها في 18 ماي من سنة
2005، منهجية جديدة ومبتكرة في مقاربة مختلف القضايا والإشكالات الاجتماعية
والاقتصادية المطروحة على الصعيدين المحلي والوطني، سواء من خلال فلسفة ومنهجية
البرامج المعتمدة، أو من خلال تركيبة أجهزة الحكامة بمستوياتها الثلاث، والاعتماد
على مقاربة النوع في مختلف جوانبها، حيث مثل هذا الورش التنموي المحطة الأولى
لظهور مفهوم الالتقائية ضمن التجربة المغربية، وتُعرِّف المبادرة الوطنية للتنمية
البشرية مفهوم الالتقائية بكونه أحد أهم آليات التعاون والتضامن بين مختلف الفاعلين
والمتدخلين، لإنجاز المشاريع ذات الطابع الاجتماعي[15]،
كما تعرفها بشكل غير مباشر بكونها أحد العوامل الرئيسية في إنجاح برامجها ومشارعها
التي تستهدف المناطق القروية والأحياء الفقيرة والهشة وعنصرا أساسيا في تنسيق
وتكامل برامج محاربة الفقر والهشاشة ورافعة لتحقيق الاندماج بين مختلف البرامج
القطاعية وبرامج الجماعات الترابية، بالإضافة إلى مخططات وبرامج التنمية المتعددة
السنوات[16]، كما تشكل محورا أساسيا في تنظيم وهيكلة أجهزة الحكامة من خلال اعتمادها على التركيبة
الثلاثية والمتمثلة أساسا في المنتخبين، الادارة وجمعيات المجتمع وبعض الأشخاص
العاملين الذين يتوفرون على خبرات وتجارب، أو بإمكانهم تقديم الدعم والمساعدة[17].
وعموما، فإن جل التعاريف التي أسندت لمفهوم الالتقائية، تطرقت أساسا لأهمية
المفهوم في توصيف الظواهر الاجتماعية وتقاطعاتها المفصلية دون الاعتماد على تعريف
مستقل للمفهوم، فكان لزاما علينا قبل أن نتطرق للمحاور الموالية من هذه الأطروحة،
أن نسهم بدورنا في تعريف مفهوم الالتقائية من منظورنا الشخصي، إيمانا منا بأهمية
هذه الخطوة في إيضاح السياق العام لمفهوم الالتقائية وتأكيدا منا على ضرورة إعماله
في مختلف مراحل اعداد وتنفيذ السياسات العمومية وتقيمها واستثمار ذلك لحل الإشكالات
والمواقف ذات الصلة، حيث يمكن أن نعرف الالتقائية بكونها مقاربة إدارية وتقنية، تهدف
تدريجيا إلى خلق الانسجام والتكامل بين فاعلين، أو أكثر لتوفير خصائص ومميزات
قيادية قادرة على بلورة سياسات وبرامج
مندمجة، تمكن من انصهار الأهداف العامة وترشيد النفقات والتقليص من مدد
انجاز المشاريع وقيادتها وفق مقاربة تشاركية تتقاطع فيها المتطلبات المادية
والبشرية وما تتطلبه من الشروط المثلى لنجاحها، فالالتقائية ليست عملية ميكانيكية
ترهن مصير قطاع بآخر، أو جماعة ترابية بأخرى، بقدر ما نعتبرها تصورا
شاملا ومندمجا، يستحضر في عمقه حجم الرهانات والتحديات المطروحة وسبل تجاوزها بما
ينعكس إيجابا على نجاعة الفعل العمومي، لا سيما في ظل رهان المغرب على مجموعة من
الأوراش التنموية والاختيارات الاستراتيجية.
[1]
-(*) يعد مفهوم الالتقائية من
المفاهيم الحديثة نسبيا في مجالات التنمية، لا سيما في المغرب، حيث تداوله لأول
مرة بالمغرب خلال الإعلان عن انطلاقة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وقد أخذت
به مجموعة من الحقول العلمية والمعرفية بطرق مختلفة، ويظل أبرز هذه الحقول، حقل
الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية، لا سيما مجال الرياضيات، لدراسة طبيعة
ومميزات والتقاء الاشكال الهندسية، لتحديد احداثيات تقاطعاتها والتقائيتها.
[2]-Définition
du mot « convergence »,www.linternaute.fr/dictionnaire/fr/definition/convergence,
26/06/2018.
[3]-Definition du mot
«Convergence», www.larousse.fr/dictionnaires/francais/convergence/18988
(consulter le 21 novembre 2018).
[4] - Le petit Larousse,
Dictionnaire encyclopédique, Illustré, Edition 1997, P269
[5]- Le Robert Illustré,
Dictionnaire de référence pour tous, Edition 2017, P221
[6] - Dictionnaire de
l’académie française, 5 éme Edition-1798, p 724.
[8] -Larousse de poche,
librairie Larousse Paris, 1979, p 93.
[9] - Emeline Nanga, entre régions: Maroc ET Mexique face
aux migrations, dans les
contextes d’intégration régionale, T.D en
sciences politique, Université du Luxembourg, Année 2016, P 35.
[10]
- G.can ive, la convergence des systèmes juridiques du point de vue du droit
privé français, revue international de droit comparé, vol. 55 n°1, janvier-mars
2003. p 7-22.
[11]-S.bourdin,
une mesure spatiale locale de la sigma-convergence pour évaluer les disparités
régionales dans l’union européenne, Région et Développement n° 37-2013, p181.
[12] -Jan
Tinbergen, né le 12 avril 1903 à La Haye et mort le 9 juin 1994 dans la même
ville, est un économiste néerlandais, lauréat, avec Ragnar Frisch du premier
prix dit Nobel d'économie décerné en 1969 et du prix Érasme en 1967. Il
enseignait à l'université Érasme de Rotterdam.
[13]-E.walsh, "régionalisme
et convergence des politiques : l’influence d’un réseau syndical dans l’élaboration des politiques du travail par le Mercosul,
Mémoire présenté à la faculté des études supérieur de l’université Laval dans le cadre du
programme de maîtrise en études internationales pour l’obtention du grade de
maîtrise arts (m.a.), Québec 2008, p 4.
[14]-D.migneault,
régionalisme et convergence des politiques : l'étude des politiques de contrôle
frontalier entre le canada et les Etats-Unis de 1980 à 2005, mémoire présenté à
la faculté des études supérieures de l'université Laval dans le cadre du
programme de maîtrise en études internationales, soutenu 2011, p (9).
[15]
- Rapport du Conseil Economique, Social et Environnemental « Initiative National
pour le développement Humane : analyse et recommandations », Saisine
n° 2 / 2013, p 30.
[16] - المذكرة التوجيهية للمرحلة الثانية للمبادرة
الوطنية للتنمية البشرية 2011-2015، ص 24.
[17] - تنص المذكرة التوجيهية للمرحلة الثالثة من
المبادرة الوطنية للتنمية البشرية 2019-2023، على أنه بالإضافة للتركيبة الثلاثية
التي ميزت المرحلتين الأولى والثانية 2005-2018، يمكن لأجهزة الحكامة الاستعانة
ببعض الأشخاص الذين تتوفر فيهم الكفاءة والخبرة، أو المال لدعم جهود أجهزة الحكامة
من أجل تنزيل برامجها.
التعليقات على الموضوع