انعكاس استقلال القضاء ونزاهته على مهنة المحاماة ودور الدفاع والمحاكمة العادلة

انعكاس استقلال القضاء ونزاهته على مهنة المحاماة ودور الدفاع والمحاكمة العادلة

الأستاذ خالد خالص
المحامي بهيئة الرباط
حينما يتمعن المرء في نفسه وفي البشر عامة، فإنه يلاحظ لا محالة بأن الإنسان كائن اجتماعي لا يطيق العزلة والانطوائية، بل خلق للتعارف والتآلف والتعيش والتعاون، ويستحيل عليه البقاء خارج المجتمع الذي ينتمي إليه إما بالولادة أو بالاختيار أو على الأقل داخل الجماعة، بحيث من الصعب عليه أن يعتمد على إمكاناته الذاتية فقط، بل هو مرغم على مظافرة إمكاناته وجهوده وإضافتها إلى إمكانات وجهود غيره لتلبية أقصى حاجاته وحاجات غيره.
قال الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}[1]. وباعتبار أن الفرد يعيش في المجتمع، ويسعى إلى التعارف والتعاون، فإنه يربط علاقات اجتماعية متعددة ويهدف إلى تحقيق مصالح مختلفة من شأن تعارضها مع مصالح الآخرين خلق حالة توثر وصراع دائمين يهددان الأفراد وربما الجماعة ككل.
وإذا كانت الغريزة أو ما كان يعرف بقانون الغاب في العهود الغابرة- أي قبل نحو مليوني سنة-[2] هي التي كانت في كثير من الأحيان تحكم الفرد في تصرفاته وتجعله يقضي لنفسه، فإن التطور الحضاري للبشرية- بعد بروز الأسرة الأولى ونشأة الجماعة- جعل العقل يتغلب على الغريزة بحيث أصبح الفرد يحتكم للجماعة بعدما أدرك أن دوام القوة من المحال ويمكن للقوي أن يقع بدوره في يد من هو أقوى منه، وهكذا دواليك.
ولم يصل الإنسان إلى هذا المستوى من الوعي إلا مع ظهور فكرة الحق، حينما بدأ أصحاب الخيام يعزفون عن خيامهم ويستقرون في البيوت المعمورة، حيث برزت بعض الحقوق المتعلقة بالأموال والدماء كما برزت بعض الحقوق المعنوية كذلك.
وأدرك الإنسان بأن مصالح الأفراد داخل المجتمع متضاربة أو متنافسة وأن المصلحة الفردية للشخص مرتبطة بالمصلحة العامة للجماعة[3] التي يعيش ضمنها إذ تكمن قوته في قوتها. كما أدرك بأن الحياة داخل الجماعة- والتي هي عبارة عن أخذ وعطاء- تخلق اختلالات وفوارق وصراعات من شأنها أن تهدد حقوق البعض، وتلحق بهم أضرارا مختلفة، حيث أدركت الجماعة أنه لا بد من نظام يوجه نشاط الأفراد فيها لتفادي الفوضى والاضطراب ولصون حريات الأشخاص ومصالحهم والحفاظ على التوازن وتكريس الأمن والطمأنينة داخلها.
ومن هذا المنطلق، أصبحت لمن يعيش داخل الجماعة مفاهيم تعرف بالأخلاق والأدب واللياقة والشرف والمؤونة وغيرها، كما عرف نظام الزواج والإرث والدية، وأصبحت للأسرة ثم للجماعة تقاليد وأعراف كانت هي النواة الأولى للقوانين. ثم جاءت بعد ذلك المعتقدات والقوانين الدينية وبعدها القوانين الوضعية التي أضحى الأفراد احترامها للعيش والتعيش فيما بينهم.
والقانون هو مجموعة القواعد التي تشكل النظام الذي يبين للفرد ما له من حقوق وما عليه من واجبات، أو بعبارة أوضح هو النظام الذي يضبط سلوك الأفراد ويحدد حقوقهم وواجباتهم انطلاقا من مهدهم إلى لحدهم، بل وحتى إلى ما بعد وفاتهم ويجب أن يتمتع هذا النظام أو هذه القواعد بقوة الإلزام، أي أنه على الجمعي الامتثال له إما عن طريق خاطر وإما بالقوة. والقانون بالتالي أضحى ظاهرة اجتماعية وضرورة اجتماعية إذ "لا قانون بغير مجتمع ولا مجتمع بغير قانون"[4]، وهي ترجمة للمقولة المعروفة : "حيث يكون المجتمع يكون القانون "Ubi societas ubis jus" وحيث يكون القانون يكون المجتمع، فالمجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد بل هو مجموعة يحكمها النظام الاجتماعي.
فالإنسان ليس اجتماعيا بطبعه فحسب، بل هو كذلك نظامي بطبعه، إذ أن الجماعات البشرية الأولى وحتى الهمجية والبدائية منها عرفت أنماطا من التنسيق والتعاون فيما بينها[5]، إذ كانت لها عادات وتقاليد وأعراف ملزمة للجميع.
ونظرا لأهمية القانون في المجتمع، فإن الدستور المغربي ينص في الفصل الرابع على أن "القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة ويجب على الجميع الامتثال له، وليس للقانون أثر رجعي"، كما ينص الفصل الخامس منه على "أن المغاربة سواء أمام القانون" و"لا يلقى القبض على أحد ولا يعتقل ولا يعاقب إلا في الأحوال وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون" (الفصل 11).
والملاحظ أنه كلما تقدم الفرد في النضج كلما زاد حرصه على احترام القانون واحترام النظام الاجتماعي بوحي من ضميره ودونما حاجة للضعور بالخوف من العقاب، سواء كان هذا القانون عرفيا أو وضعيا.
إلا أن الملاحظ كذلك هو أن أغلبية الناس تجري وراء السلطة والماء والشهوة والشهرة وغيرها، مما يجعل مصالح ومواقف البعض تصطدم مع مصالح ومواقف البعض الآخر، الشيء الذي يؤدي إلى نشوء نزاعات تهدد النظام الاجتماعي.
والنظام الاجتماعي هذا يمنع على الفرد الحصول لنفسه ومن ذاته على الحق الذي على حمايته وإنصافه من كل اعتداء على شخصه وعلى ماله.
ولهذه الغاية ارتأت الجماعة بأن الضرورة لا تستدعي وجود تقاليد وأعراف وقوانين فحسب، بل تستدعي وجود قضاء للبت فيما تعارفوا عليه بأنه "الحق" لأن القضاء هو الروح التي تضمن للقانون الحياة".
والقضاء هو وليد المجتمعات المنظمة أو شبه المنظمة وهو ملجأ المجتمع لحمايته من الفوضى ومن انعدام الأمن وهو الساهر على إقرار السلام بين أفراده، ولا يمكن بناء دولة مستقرة بدون قضاء، ولا يمكن لأي مجتمع أن ينمو وأن يزدهر بدون قضاء، وبهذه الصفة يعتبر القضاء أحد أعمدة الديمقراطية لأن الأحكام تصدر باسم الجماعة أو باسم الشعب الملك[6].
كما يعتبر القضاء من أخطر السلط وأوسعها لأن المجتمع ككل يسلم لمجرد شخص فإن سلطته التحكم في أموال وحرية وشرف وحياة أمثاله[7].
والقضاء إما أن يكون كفؤا نزيها ومستقلا، وإما أن لا يكون لأنه أصبح لعبة خادعة في أيادي قذرة يكون ظاهرها الحق والعدل وباطنها الباطل والظلم. وإذا كان "العدل أساس الملك" فإنه لا يمكن بالتالي بناء دولة مستقرة بدون عدل ولا يمكن إقامة العدل دون تبني فلسفة العدل، وفلسفة العدل هذه لا يعرف تقديس الأشخاص ولا تقديس المال. ومن تم تعتبر المهمة الموكولة للقضاء من أصعب المهام لأن من شا،ها أن تكون منبعا للاستقرار أو الفوضى داخل المجتمع.
كما يعتبر إلقاء أداة للنهوض بالاستثمار والنماء الاقتصادي؟، إذا ما عزز مناخ الثقة التي تعد حجر الزاوية للاقتصاد الليبرالي. فالتوجه الذي يسير عليه العالم نحو العولمة والانفتاح على الآخر والقدرة على المنافسة الشرسة التي تقوم عليها اليوم النظم الاقتصادية العصرية في الأسواق الداخلية والخارجية يجعل من القضاء أداة لضمان الاستقرار الضروري للرقي الاقتصادي وأداة لتوفير مناخ تسوده الثقة لجلب الاستثمار الأجنبي وحافزا حقيقيا للمبادرة والاستثمار الوطني.
وبناء عليه يشترط في القاضي صفات متعددة تؤهله للمهام التي ينيطه بها المجتمع، فبالإضافة إلى التفوق الأكاديمي والتداريب الضرورية، فإنه يشترط في القاضي ملكة البديهة والذكاء وقوة الشخصية وقوة الاحتمال والتجرد والحياد إلى جانب الصفات الأخلاقية المعروفة كالشرف والنزاهة والشجاعة واحترام كرامة الآخر...إلخ.
لذا، فإن ضرورة انتقاء المرشح للقضاء وفق هذه المعايير الدقيقة، إلى جانب دراسة البيئة التي نشأ بها بجوانبها المختلفة وسلوكياتها بكافة أبعادها ستجعل من القاضي المغربي غدا قاضيا يمكن الاطمئنان إليه: لأن الصفات التي يتحلى بها تجعله ملتزما بالخطوط الحمراء التي لا يسمح له بتجاوزها.
إلا أن القاضي رغم كفاءته وتحليله بالصفات المذكورة وعدم اكتراثه بأي تهديد من قبل شخص أو من قبل جماعة، يكون في كثير من الأحيان محل ضغط من قبل سلطة من السلط الأخرى القائمة في البلاد التشريعية أو السلطة التنفيذية إلى جانب سلط أخرى سيتم التطرق إليها فيما بعد.
ونظرا لخطورة مهام القاضي والدور الفعال الذي يلعبه في المجتمع، سواء في تنظيمه للحياة الاجتماعية بفصله في النزاعات فيما بين الأفراد من جهة، وفيما بين هؤلاء وبين أجهزة السلطة العامة من جهة ثانية، فإنه تقرر اعتبار القضاء مستقلا عن السلطة التشريعية والتنفيذية لأن طغيان سلطة على سلطة أخرى يؤدي إلى قتل الديمقراطية ومن تم إلى التخلف والانحطاط.
فما هو التطور التاريخي لاستقلال القضاء؟ وما هي النصوص القانونية التي تظم هذا الاستقلال من جهة؟ وما هو مفهوم استقلال القضاء من جهة ثانية؟ وما هو انعكاس هذا الاستقلال على دور الدفاع ومهن المحاماة من جهة ثالثة ورابعة؟
محطات تاريخية لاستقلال القضاء:
بما أن الخصومة من لوازم الطبيعة البشرية، فإن الشريعة الإسلامية اهتمت بالقضاء وأمرت بالعدل نظرا للقضاء من خطورة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وقد ورد ذكر القسطاس- والذي يعتبر مرادفا للعدل ومناقضا للظلم- في القرآن الكريم في خمسة وعشرون آية وورد ذكر العدل في العديد من الآيات لا مجال لذكرها جميعها في هذه الدراسة[8]، كما أن السيرة النبوية اهتمت بالعدل دون الكلام عن سيرة الخلفاء الراشدين ومن جاء من بعدهم.
فالحكم كان يتم من خلال القرآن الكريم ومن خلال سنن نبيه، قال عز من قائل: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك ولا تكن للخائنين خصيما}[9]، فالحكم لله عز وجلاله وهو خير الحاكمين:{إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين}[10]، كما قال "ولله يحكم و ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب[11]، {ويا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق}[12].
وملخص القول أنه كان ينظر للقضاء نظرة دينية صرفة: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين}[13] {وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل}[14]، {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}[15]، {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى إن الله خبير بما تعملون}[16].
والسلطات الثلاث كانت في بداية عهد الإسلام سبه مجتمعة في يد الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أن الله سبحانه كان يوحي إليه بالآيات القرآنية، وأن الولاية الكبرى كانت له من البار عز وجل الذي قال: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا فيما قضيت ويسلموا تسليما}[17].
وكان صلى الله عليه وسلم يحرص كل الحرص على إقامة العدل بين الناس وهي وظيفة تقلدها حتى قبل ظهور الإسلام، حيث كان أهل قريش يحكمونه فيما ينشأ بينهم من خلافات حتى سمي بالأمين.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله عز جلاله أنه قال:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا"[18].
حقيقة إن القضاء ولو كان على أحسن وجه لا يمكنه أن يقضي على الشعور بالظلم لأن العدل إذا كان مجرد تصور، فإن الظلم يبقى شعورا ومن البشر لم يشعر في يوم من الأيام بالظلم؟ وعلى القضاء أن يكون عادلا حتى لا يكون الشعور بالظلم مرتين وتنعدم المصداقية في القضاء ومن تم في المجتمع.
وكان صلى الله عليه وسلم أحرص على العدل من أي شيء آخر:"فكان يتعود من درك الشقاء وشماتة الأعداء وسوء القضاء"[19]، فعن الإمام مالك أبي أنس عن الرسول صلى الله عليه وسلم :" إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما اسمع منه، فمن قضيت له بشي من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار"[20].
ومن توسع ورقعة الإسلام كان لا بد من تعيين قضاة للفصل بين الناس، وقد تم تعيين هؤلاء حتى بالمدينة المنورة، حيث كان يقيم الرسول[21].
كما تم تعيين قضاة خارج المدينة المنورة، فعن بن عوف عن شريك عن سماك عن حنش عن علي قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا فقلت: يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء فقال: "إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك فإذا جلس بين يديك الخصمان لا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء"[22].
كما كان صلى الله عليه وسلم يوجه القضاة كقوله: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان"[23]، "وإن خيركم أحسنكن قضاء"[24]، وأن "من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين"[25]، وأن "قاضيان في النار وقاضي في الجنة"[26] وأن "عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة".
وكان نظام الحكم يقوم عند العرب على حصر سلطات الحكم بالإمامة الكبرى أو بالخليفة، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في أول خطبة له: "الضعيف عندكم قوي عندي  حتى أخذ الحق له والقوي فيكم ضعيف عندي أخذ الحق منه إن شاء الله".
وكان سيدنا عمر بن الخطاب  رضي الله عنه- المشهور برسالته لأبي موسى الأشعري والي البصرة- هو أول من فصل القضاء عن الولاية العامة وجعله مستقلا بنفسه ووضع أول دستور لسلوك القاضي[27].
وعرف استقلال القضاء أجل تجلياته في عهد عمر ابن عبد العزيز الذي يروي عنه أنه عندما ولي الخلافة جاءه وفد من أهالي سمرقند وشكا له قائده قتيبة بن مسلم الباهلي بأنه دخل بلدهم سمرقند مع جيشه قبل أن يوجه لهم الإنذار حسب قواعد الإسلام فكتب عمر إلى عامله في العراق أن ينصب لهم قاضيا فنصب لهم جميع بن حاضر الباجي الذي سمع شكواهم فسمع وحاكمهم مع القائد قتيبة وحكم بخروج المسلمين من سمرقند وأن يعوذ أهلها إلى حصورهم، وخضع القائد العظيم وجيشه الذي فتح القارة الأسيوية وأخضع ملوك الصين، خضع لحكم جميع وهو المسلمين بالانسحاب، إلا أن أهل سمرقند ولما رأوا بأن الأمر جد وأنهم لم يشهدوا عدلا مثل هذا العدل قالوا مرحبا بكم سمعنا وأطعنا[28].
ويروى كذلك بأن أحد ولاة الخليفة عمر بن عبد العزيز كتب إليه يطلب مالا لتحصين المدينة فكتب إليه يطلب مالا لتحصين المدينة فكتب إليه عمر قائلا "حصنها بالعدل ونق طريقها من الظلم"[29].
ويجب التذكير بأنه لا مجال لمقارنة القضاء واستقلال القضاء في عهد الرسول وعهد الخلفاء الراشدين وما أتى من بعدهم مع الفكر الليبرالي الغربي الذي برز في القرن الثامن عشر مع مونتسيكيو صاحب نظرية تقسيم السلطات إلى سلطة تشريعية تضع القوانين وسلطة تنفيذية تنفذ القوانين وسلطة قضائية تفصل في النزاعات على ضوء القوانين[30]. وقد أوضح مونتيسكيو بأنه لا ديمقراطية إلا بتقسيم السلطات الثلاث وأن أي تسلط من سلطة على أخرى لا يؤدي إلا إلى الديكتاتورية.
وقد كانت نظرية مونتسيكيو هي الحافز على اندلاع الثورة الفرنسية 1789 رغم أن صاحب النظرية توفي سنة 1755.
وبعد ذلك جاءت المواثيق الدولية التي التزم المغرب باحترامها: فديباجة الدستور المغربي الصادر في 7 أكتوبر 1996، تنص على أن المملكة المغربية وإدراكا منها لضرورة إدراج عملها في إطار المنظمات الدولية تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيق هذه المنظمات من مبادئ وحقوق وواجبات وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا.
وتنص ديباجة ميثاق الأمم المتحدة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان المؤرخ في 10 دجنبر 1978 على أن تجاهل حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال أثارت بربريتها الميز الإنساني، وأن من الأساسي أن تتمتع حقوق الإنسان بحماية النظام القانوني إذا أريد للبشر أن لا يضطروا آخر الأمر إلى اللياذ بالتمرد على الطغيان والاضطهاد". كما تنص المادة العاشرة على أن "لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في أن تنتظر قضيته محكمة مستقلة ونزيهة نظرا منصفا وعلنيا الفصل في حقوقه والتزاماته وفي أية تهمة توجه إليه" كما أن الفصلين 14 و15 من المعاهدة الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية المؤرخة في 16 فبراير 1966 أولت نفس الاهتمام لموضوع الاستقلال القضاء والمحاكمة العادلة[31].
كما أن المؤتمر السباق للأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد بميلانو من 26 غشت إلى 6 شتبر 1985 أقر مبتدئ أساسية بشأن استقلال السلطة القضائية من بينها أن الدولة تكفل استقلال السلطة القضائية، وينص على ذلك دستور البلد وقوانينه وأنه من واجل جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية، وتفصل هذه الأخيرة في المسائل المعروضة عليها دون تحيز علة أسا الوقائع وفقا للقانون ودون أي تقييدات أو تأثيرات غير سليمة، أو أي إغراءات أو تهديدات أو تدخلات مباشرة أو غير مباشرة من أي كان أو لأي سبب.
واعتمد المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة قواعد التطبيق الفعلي للمبادئ الأساسية المتعلقة باستقلالية القضاء، التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1989[32].
كما اعتمد مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع ومعاملة المجرمين المنعقد في هافانا من 27 غشت إلى 7 شتنبر 1990، المبادئ التوجيهية بشأن أعضاء النيابة العامة والمتمثلة في ضمان وتعزيز فعالية أعضاء النيابة العامة، وحيادهم وعدالتهم في الإجراءات الجنائية.
أما اتحاد المحامين العرب، فقد أولى مسألة استقلال القضاء المحاماة اهتماما خاصا، إذ انطلق مما قرره قانونه الأساسي من العمل على تأمين استقلال القضاء والمحاماة فاختار لمؤتمره الرابع عشر المنعقد عام 1980 في الرباط عنوان "استقلال المحاماة ضمانة أساسية لحق الدفاع" وأسس الاتحاد من بين لجانه لجنة لاستقلال المحاماة والقضاء جرى إعادة تنظيمها كلجنة دائمة بناء على توصية المكتب الدائم للاتحاد المنعقد بالدار البيضاء، عام 1990، وأجرت اللجنة دراسة لواقع المحماة والقضاء في البلدان العربية من خلال الاستبيان الذب وجهه الاتحاد في شهر فبراير 1991 إلى جميع نقابات المحامين في الوطن العربي تضمن الاستيضاح عن مظاهر وواقع الاستقلال والقضاء في الأقطار العربية، ويكرس الاتحاد من بين أعماله بندا خاصا لمتابعة الموضوع كما يوليه الاهتمام في صحافته، حيث ينشر بشكل متواصل الأبحاث والدراسات المتعلقة بهذا الموضوع.
وعقد المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة مؤتمره الثاني بالقاهرة، في الفترة ما بين 21 و24 فبراير 2003 تحت شعار "دعم تعزيز استقلال القضاء"، ولاحظ المشاركون أن القضاء المستقل هو الركيزة الأساسية لضمان الحريات العامة وحقوق الإنسان، ومسيرة التنمية الشاملة وإصلاح نظم التجارة والاستثمار والتعاون التجاري بين البلدان العربية والدول الأخرى، وبناء صرح المؤسسات الديمقراطية، كما لاحظ المشاركون بأن السبب الرئيسي لعدم استقلال القضاء في غالبية البلدان العربية هو غياب فكرة المؤسسة ولا سيما المؤسسة القضائية وغياب الديمقراطية وسيادة القانون وتدخل السلطات التنفيذية في أعمال وشؤون السلطة القضائية، وتراجع مستوى التعليم الحقوقي الذي أدى إلى أضعاف الثقافة المتعلقة باستقلال القضاء، وأنهى المؤتمرون أشغالهم ببيان يتضمن توصيات تلح على الإلتزام بمبادئ الأمم المتحدة الأساسية المتعلقة باستقلال القضاء مع توصيات أخرى سيطول الأمر بذكرها.
وفي المغرب اهتم الدساتير الثلاثة "بدسترة" استقلال القضاء، وينص الفصل 82 من دستور 7 أكتوبر 1996، على أن "القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية".
وينص الفصل 84 على ما يلي: "لا يعزل قضاة الأحكام ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون".
وبالرغم من هذه النصوص ونصوص أخرى سيتم التطرق إليها في هذه الدراسة، فإن استقلال القضاء يثير في المغرب عدة إشكالات سواء تعلق الأمر بالتنظير أو الممارسة، كما أن لاستقلال القضاء ونزاهته انعكاسات على دور الدفاع والمحاكمة العادلة وعلى مهنة المحاماة بصفة عامة.
استقلال القضاء ونزاهته وانعكاسه على دور الدفاع والمحاكمة العادلة
لا يجادل أحد في كون القضاء هو ركن من أركان الدولة إذا انهار معه هذه الأخيرة بالتبعية.
فالقضاء هو السهر على فرض احترام القانون من طرف الجميع ودون تمييز بين الأشخاص سواء من حيث العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو غيره من الآراء أو المنشأ الوطني والاجتماعي أو الأصلي العرقي أو الملكية أو المولد أو الحالة الاقتصادية أو أي وضع آخر، هو حامي الأفراد والجماعات من التعسف والشطط والظلم وهو الذي يحد من التجاوزات ويوفر ما استقر عليه الجميع أنه عدل وهو الذي يوفر المناخ السليم للنمو الاقتصادي والحافز على تشجيع الاستثمار.
وأن المساواة أما القانون وافتراض البرادة والحق في محاكمة عادلة وعلنية أمام محكمة مستقلة ونزيهة، هي من بين المبادئ التي لا مناص منها لتعزيز واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
ويتبوأ القضاء منزلة كبيرة في الدولة نظرا لما يقوم به من وظيفة من شأنها بت الأمن ومحاربة الفوضى في المجتمع، إلا أن القضاء لا يمكنه أن يحقق المكانة الجديرة به إن هو لم يحض بثقة المواطنين عامة وبثقة المتقاضين خاصة، وأن ثقة هؤلاء وأولئك لن تتحقق إلا من خلال برهنة القضاة أنفسهم على تجريدهم ونزاهتهم واستقامتهم عن أي تدخل أو تأثير. قال رئيس فرنسا السابق فإنسان أورويل عند نهاية رئاسته سنة 1955: "يوم يفقد المواطنون ثقتهم في العدالة تتعرض الدولة كما يتعرض نظام الحكم لأشد الأخطار"([33])، ولا خوف على أمة بها قضاء كفؤ ونزيه ومستقل قيل لتشيرشيل رئيس بريطانيا العظمى السابق بأن الفساد ظهر في أجهزة الحكومة والإدارة، فسأل: وكيف القضاء؟ فقالوا: "القضاء البريطاني ممتاز جدا"، فقال: "لا خوف على بريطانيا".
ولكي يكون للقاضي دور فعال على المجتمع أن يوفر له هذه الاستقلالية والاستقلالية والتامة لأداء مهمته على أحسن وجه وفي أحسن الظروف، والاستقلال يعني حرية القاضي في إصدار الأحكام دون تدخل أو تأثير، وهذا الاستقلال لا يجب أن يقتصر على السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولكن عليه أن يمتد لسلطة الرأي العام وسلطة الإعلام وسلطة المال وسلطة النفس الأمارة بالسوء التي تحاول دائما استتباعه وتدجينه.
ومن تم وجبت دراسة استقلال سلطة القضاء عن باقي السلط واستقلال القضاة كأفراد يمثلون السلطة القضائية عند قيامهم بمهام وظائفهم ومدى تأثير الاستقلال وانعدامه على دور الدفاع والمحاكمة العادلة.
وسأقتصر في هذه الدراسة على قضاء الحكم نظرا لأن الكل يعرف انعدام استقلال القضاء الواقف وقضاء التحقيق  الذي سأكتفي بخصوصهما ببعض الإشارات لا غير.

أولا- استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية التنفيذية:
بالرجوع مرة ثانية إلى الفصل 82 من الدستور نجده ينص على:" أن القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية"، ومن هذا المنطلق ومن منطلق دراسات فقهية متعددة يمكن القول بأن المغرب لا يعتبر القضاء سلطة بل وظيفة، إلا أن ديباجة الدستور تنص على أن المملكة المغربية تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيق المنظمات الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات، والمغرب عضو في منطقة الأمم المتحدة الذي اعتمد مؤتمره السابع لمنع الجريمة والمجرمين على توصية تنص على أن "الدولة تكفل استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد وقوانينه، ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية"[34] ولا مجال للحديث الآن عن سمو هذه الاتفاقيات عن التشريع الوطني أو عدمه، لأن المطلب الذي يفرض نفسه الآن بإلحاح هو التنصيص على كون القضاء سلطة وليس مجرد وظيفة، لذلك تمنى أن يتم رفع اللبس والتنصيص على القضاء كسلطة قائمة الذات بمناسبة أقرب تعديل الدستور المغربي ليتبوأ القضاء في المغرب المكانة التي يجب أن يحظى بها.
وباعتبار أن الدستور المغربي لا يتكلم سوى عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية فسنتناول بالدرس هذه السلط قبل التطرق للسلط الأخرى التي لا تقل خطورة على القضاء.
أ- استقلال     القضاء عن السلطة التشريعية:
تسهر السلطة التشريعية على وضع القوانين العامة المجردة دون نظر إلأى حاجة معينة ولا إلى شخص بذاته، والنظام الديمقراطي يقتضي فصل هذه السلطة التي تسن القوانين عن السلطة القضائية التي تطبق القوانين.
واستقلال القضاء، كسلطة أو كوظيفة، عن السلطة التشريعية تبرره حماية المتقاضين أـنفسهم إذ لا يتصور في العصر الحديث أن يقوم القاضي الذي يفصل في المنازعات على سن قوانين تساير ميوله ونزواته حسب نوع القضايا أو حسب نوع المتقاضين.
كما أن استقلال القضاء يقتضي أن يمنع على السلطة التشريعية أن تفصل في منازعة تدخل في اختصاص القضاء أو أن تنزع عن الجهات القضائية جزء من اختصاصها لتمنحها لجهات غير قضائية لتنظر فيها بصورة مستقلة.
كما يتعين على السلطة التشريعية تفادي خلق ما يعرف بالقضاء الاستنائي لتتحرر السلطة التنفيذية من سلطة القضاء واستقلاله، فالقضاء الاستثنائي يرتبط ويتأثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالسلطة التنفيذية التي تجد فيه مجالا خصبا لتنفيذ سياستها. وهذا الارتباط يبد  استقلال القضاء الذي يشكل الدعامة الأساسية لإقرار العدل. ويشكل القضاء الاستثنائي خطرا على مهنة المحاماة، إ\ يقتصر دور الماحمي على أداء شكلي أو إلى مساجلات في غير صالح الموكلين، الشيء ال\ي يحول المحاماة من رسالة للدفاع عن المتهم إلى الدفاع عن ذات الماحمي أمام هدر كرامته وتهميش دوره، إذ تأتي الأحكام جاهزة من السلطة التنفيذية، ويقتصر دور القضاة على النطق بها، ويمكن القول بأن الجميع يشارك في مسرحية سخيفة لا تمت للعدالة ولاستقلال القضاء بصلة، وخير دليل على هذا القول ما كان يجري أمام محكمة العدل الخاصة التي تم إلغاؤها مؤخرا.
ومن جهة أخرى، فإنه لا يجوز للسلطة التشريعية عند استعمالها حق ترتيب الجهات القضائية وتحديد اختصاصاتها أن تسلب حق التقاضي على شخص أو أشخاص معنيين، كما لا يجوز لها إلغاء الأحكام القضائية أو تعطيل أو وقف تنفيذها.
وإذا كان لا يحق للقضاء التدخل في العمل التشريعي بصفة عامة، فإنه بإمكانهم تفسير القوانين بخصوص الحالات المعروضة عليهم، إلا فيما يتعلق بدستورية القوانين التي يمنع النظر فيها لمحاكم الموضوع وتبقى من اختصاصات الغرفة الدستورية.
وإذا كان استقلال القضاء عن السلطة التشريعية يدخل ضمن الرهان الديمقراطي فإن الرهان الحقيقي والصعب المنال هو استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية.
ب- استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية:
لا يجادل أحد في أن السلطة التشريعية لا تشكل خطرا حقيقيا على القضاء، إلا إذا وجهت من قبل السلطة التنفيذية على شكل مشاريع قوانين تهدف نسف استقلال القضاء، لكن الخطر الحقيقي والمباشر هو ال\ي يتأتى من السلطة التنفيذية التي تمارس الحكم الفعلي في الدولة، وتجمع بين أيديها كل القوى المادية، فبعض رجالاتا هذه السلطة وما لهم من إمكانات ومن قوة النفوذ يمليون إلى الاستثمار والتسلط حتى في المنازعات التي تكون السلطة التنفيذية طرفا فيها، بل هناك أمثلة كثيرة ت\هب أبعد من ذلك، وتفيد تعنث السلطة التنفيذية في تنفيذ أحكام السلطة القضائية مما يفقد المصداقية في الأحكام، ومن تم في القضاء، وأحسن مثال على ذلك هو قرار المحكمة الاتحادية في الولايات المتحدة الأمريكية القاضي بقبول طالب زنجي سنة 1962، وتعصب حاكم ولاية تكساس ومنع تنفيذ الحكم حيث تدخل الرئيس ريشارد كنيدي وأرسل جيشا يتكون من 3000 جندي، وتم إدخال الطالب الزنجي للجماعة تحت أسنة الحرب، ويدل هذا على أن الرئيس الأمريكي فطن إلى 3وجوب المحافضظة على سيادة القانون واستقلال القضاء واحترام الحكم القضائي[35].
فاستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية لا يقتضي من هذه الأخيرة عدم التدخل في أعمال القضاء فحسب، ولكن يقتضي منها السهر على توفير جميع الموارد والوسائل المادية الضرورية للجهاز القضائي للقيام بمهامه، وهنا لا بد من الوقوف قليلا للتساؤل حول ما يمكن للقاضي أن يفعله أمام جهاز تنفيذي – الذي هو وزارة العدل-[36]، لا يوفر له الموارد المادية الضرورية ليكون فعالا ويقوم بمهامه على أحسن وجه؟ ولن أدخل في تفاصيل يعرف الكل جزياتها إذ يمكن التساؤل كيف استمر القضاء المغربي من الاستقلال إلى الآن رغم بؤس إمكاناته ومحاكمة المتساقطة وأدوات عمله المتجاوزة. ويمكن الجزم على أن الأمة نسيت قضائها، وكانت ومنذ فجر الاستقلال لا توفر له حتى الحد الأدني الذي يضمن له الكرامة، وبقيت السلطة التشريعية وك\ا السلطة التنفيذية تستهين بعمل القضاة ولا تعيره الأهمية التيب من الواجب أن يحظى بها، وكان الجميع تقريبا ينظر إلى أن أبناء الطرق والمدارس والمستشفاياتأهم بكثير من تطوير القضاء وتحصينه وتحديثه، متناسين بأنه لا مكانة بمجتمع بدون قضاء ولا مكانة لاستقرار بدون قضاء، ولا مكان لاقتصاد بدون قضاء، ويمكن قول نفس الشيء عن رجال السياسة، وقد سبق للأستاذ محمد السماحي أن كتب ما يلي: "أما رجال السياسة فيكفي أن أسجل أن أية هيأة سياسية لم تجعل القضاء ضمن أولويتها ولا هو يتبوأ صدر برامجها"[37] ولم يستوعب المشرع المغربي وك\ا الجهاز التنفيذي وكذا رجال السياسة عامة هذا المعطى إلا مؤخرا –وبإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي- باعتبار أن القانون والقضاء يكونان جزء لا يستهان به من البنية التحتية الضرورية لكل مجتمع. ورغم هذا الفهم فإن تحديث القضاء في المغرب كل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ورغم المساعدات الدوليى الضخمة[38]، يبقى خجولا محتشما لبعض العقليات الصلبة المتحجرة من جهة ونظرا لقلة الكفاءات في هذا الميدان من جهة أخرى، ونظرا لتداخل السلطات بعضها البعض من جهة ثالثة، وإذا كان الجميع يعرف بأن السياسة هي عدو القضاء وأن لقضاء لا يجب أن يخضع للضغوط السياسية فإنه يمكن التساؤل عن إمكانية تقليد مهام وزير العدل الذي يشغل في نفس الوقت منصب نائب رئيس الأعلى للقضاء لرجل منتمي سياسيا؟
إن قلة الإمكانات التي يعاني منها القضاة تحد من استقلالهم بصفة مرهبة، وعلى القضاة أنفسهم أن يلحوا ويقنعوا باقي السلط لتمكينهم من الموارد والوسائل الضرورية  للقيام بمهامهم، وفي جميع الأحوال فإن بقاء الوضعية المادية للقضاء بصفة عامة وللقاضء بصفة خاصة بين يدي السلطة التنفيذية يفقد القضاء ككل جانبا مهما من استقلاله.
والملاحظ كذلك هو ما يواجه القاضي يوميا من تراكم الملفات التي يتعين عليه دراستها والبت فيها وتحرير الأحكام بشأنها، فبغض النظر عن قلة الوسائل التي يتوفر عليها القاضي المغربي للبحث والدراسة، فإن العديد الهائل من النوازل التي تطرح عليه لا تسمح له بإصدار أحكام في المستوى المطلوب منه، ثم إن العدد المهمول من الملفات المعروضة في الجلسات الجنحية أو الجنائية لا تبيح للمحكمة ولا للمحامين القيام بدورهم في ظروف مريحة تسمح للقضاة باستقصاء الحقيقة، ويمكن القول هنا أن العديد الهزيل من القضاة المغاربة الذي لا يتعدى الثلاثة آلاف فرد ما بين قضاء جالس وقضاء واقف وقضاة ملحقين بالوزارة أو بالمعهد العالي للقضاء أو بدول صديقة لا يكفي لثلاثين مليون نسمة أو ثلاثة ملايين قضية معروضة على المحاكم الآن([39]).
إن القضاء رهين بالتريت وعدم التسرع في تجهيز الملفات وإصدار أحكام بشأنها خصوصا تلك التي تتعلق بحرية الشخاص، ويمكن للمتهم أن يلاحظ عن قرب المهازل التي تقع سواء على مستوى التحقيق أو على مستوى محاكم الجنايات نظرا للضعف الذي تمر فيه المحاكمات وعدم إعطاء الوقت الكافي للمحامين للقيام بمهامهم في ظروف تسودها روح المسؤولية.
ومن جهة أخرى، ودائما في غطار استقلال القضاء، على السلطة التنفيذية عدم التدخل في الشرون القضائيةو بفصلها في مسائل اختصاص المحاكم، وفي هذا الأغطار فقد نص المشرع المغربي في الفصل 239 من القانون الجنائي على معاقبة "كل عامل أو باشا أو قائد أو أي حاكم إداري آخر فصل في مسألة من اختصاص المحاكم في غير الحالات التي ينص عليها القانون".
ويجب الإلحاح على ضرورة أن تعمل السلطة التنفيذية على احترام أحكام وقرارات المحاكم والحرص على تنفيذيها ولو بالقوة إن اقتضى الأمر ذلك، إذ لا معنى لبناء المحاكم وتجهيزها وتكوين القضاة وتجنيد عدد هائل نمن الفاعلين في المحيط القضائي إذا كانت الأحكام سبقى حبرا على ورق بدون تنفيذ، وعلى الإدارة نفسها أن نفسها أن تعطي المثال على تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة الصادرة ضدها من قبل المحاكم الإدارية أو غيرها إذ لا يعقل أن تبقى الأحكام بدون تنفيذ و" لاينفع تكلم بحق لا نفاذ له"([40]).
وكما يمنع على السلطة التنفيذية التدخل في القضاء، فإنه يمنع على هذا الأخير التدخل في شؤون السلطة التنفيذية أو عرقلة أعمالها أو إلغاء قراراتها، إلا أنه يبقى دائما أن القضاء الإداري يتمتع بحق مراقبة شرعية الأعمال الإدارية وبحق إلغاء القرارات المتسمة بتجاوز السلطة أو بالشطط في استعمال السلطة، وللقضاء الإداري سلطة الحكم على الإدارة بتعويض المصابين بالأضرار التي تسببت لهم فيها حسب القواعد المعمول بها في المجال([41]).

ثانيا: استقلال القضاء عن الرأي العام وعن سلطة الإعلام
تعتبر وسائل الإعلام المرأة الحقيقية التي تعكس وضعية المجتمع من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولا أحد ينكر الدور الهام الذي يلعبه الإعلام: المرئي أو المسموع أو المكتوب (...) في تنوير الرأي العام وبت الوعي وتدعيم الثقافة وتكريس الحياة الديمقراطية وفضح التجاوزات وغرس المواطنة ونقل الرأي والرأي الآخر.
وحيث إنه أمام جسامة مسؤولية الصحفيين في التصدي لخرق الحقوق، فقد أدى منهم الكثير الثمن غاليا لما تعرضوا له من مضايقات وعمليات اختطاف واغتيالات واعتقالات ومحاكمات إذ أصبح الإعلام يعتبر سلطة رابعة إلى جانب السلط الثلاثة المتحدث عنها سابقا لما له من تأثير مباشر على الجماهير.
وللإعلام دور خطير كذلك في تشكيل وجدان المواطنين وفي إعطاء الأخبار أهميتها أو تهميشها أو تمتيع أهدافها، وإذا كان الكل قد نادى ومنذ فجر الاستقلال بحذف الرقابة الرسمية على وسائل الإعلام، فإن على رجل الإعلام أن يوظف الرقابة الذاتية لكي لا يزرع البلبلة داخل المجتمع أو يؤثر سلبا على القضاء، فالإعلام بإمكانه أن يكون حاجزا ضد إقبار بعض الملفات وهنا يلعب الإعلام دورا إيجابيا في تعزيز المساءلة والمحاسبة إلا أن الإعلام بإمكانه أن يؤثر ويوجه القضاء بعناوين ومضامين مقالات أو تصريحات أو صور تعبر ع انفعال أو هوى أو شهورة الرأي العام، كما أن وسائل الإعلام تكون أحيانا وسيلة في يد السلطة السياسية أو القتصادية تستعملها للتأثير على القضاء لمعاقبة أعدائها والتستر على أصدقائها، ولا يقتصر الأمر هنا على ما يعرف بالإعلام الحر أو الحزبي أو الاقتصادي بل يشمل كذلك وسائل الإعلام الرسمية.
فالإعلام على عكس ما كان عليه بالأمس أصبح اليوم كالغداة فيه الملوث الذي يسمم  الأفكار ويلوث الدماغ ويتلاعب بنا ويفسدنا ويحاول أن يزرع في "لا وعينا" أفكارا ليست بأفكارنا، ولن أدخل في جزئيات ضرورة تنقية البيئة الإعلامية من أجل تنظيفها وإزالة الأوساخ العالقة بها، ولكنني أقتصر على مطالبة القاضي أن يكون شديد الحذر حتى لا يصبح لعبة في يد الرأي العام وفي يد بعض وسائل الإعلام أو في يد السلطة السياسية أو في يد سلطة المال "يرقصونه" متى شاءوا ويملون عليه الأحكام بطريقة غير مباشرة، لأنهم متسرعين عادة في تعيين "أعداء الأمة" وفي إدانتهم حيث لا يبقى للقاضي إلا تضمين الرأي العام في الأحكام، فبإمكان وسائل الإعلام أن تجعل من القاضي بطلا لبضعة أسابيع أو لبضعة شهور وتدفعه إلى ارتكاب الخطأ القضائي، والمعروف أن هم بعض لصحفيين وبغض النظر عن الخلفيات السيئة للغاية إذ يقتصر دائما على السبق في نش الخبر، ومرارا تنشر أخبار لم يتم تعميق البحث بشأنها ويبقى المواطن فريسة للمولوعين بالفضائح وينسى الجميع بأن البراءة هي الأصل، وتستمر الضغوطات من قبل الجميع إلى أن يتم الاعتقال ثم ربما الإدانة؟ والأمثلة كثرة ومتنوعة لأشخاص عانوا من القضاء المغربي سواء على مستوى الضابطة القضائية أو على مستوى النيابة العامة أو على مستوى التحقيق أو على مستوى الحكم، وقد اعتقل الكثير منهم بإيعاز من الرأي العام من السلطة السياسية عبر وسائل الإعلام وقضوا شهورا بالسجون على ذمة التحقيق ليتم فيما بعد الإعلان عن عدم متابعتهم وإطلاق سراحتهم، كما قضى الكثير منهم شهورا وأعوام بالسجون لتتم إدانتهم في الدرجة الأولى نظرا لضغط وسائل الإعلام، وكان لا بد من انتظار درجة ثانية من التقاضي، حيث لم يعد الراي العام ووسائل الإعلام تهتم بالقضية لأنهما منهمكين في "فضائح"  أخرى ليتم التقصي من جديد، وبنوع من الهدوء، ويتم ربما إنصاف من رمي ظلما في السجون وشوهت سمعته وسمعة أسرته وعائلته، وما ينتج ع هذا التشويه من عواقب على نفسيته وعلى سمعته وسمعة أسرته وعلى عمله.
والغريب في الأمر أن وسائل الإعلام التي أدانته مسبقا لا تبقى مواكبة لملف "الفضيحة" والضجة التي أثارتها حين عدم المتابعة وإطلاق سراح المعني بالأمر أو حين الحكم ببرائته أو إلغاء الحاكم بإدانته، وحينما تهتم فإنها تقتصر على مجرد خبر ينشر في أسفل صفحة لا تقرا وبحروف صغيرة لا تثير الانتباه.
فعلى القاضي إذن أن يكون حذرا من بعض وسائل الإعلام التي تخصص في إطلاق النار على كل من يتحرك أمامها وإن يقتصر حين يخلو للمداولة على عناصر الملف وعلى ما راج أماه في الجلسة، وألا يكترث برأي الجمهور وبانتقادات الآخرين ليعبر من تم على أنه فعلا قاض مستقل عن ضغوطات الرأي العام ووسائل الإعلام.
يمكن القول بأن المشرع واع بخطورة التأثير على القضاة بحيث أنه نص في الفصل 266 من مجموعة القانون الجنائي على معاقبة الأقوال والأفعال أو الكتابات العلنية التي يقصد منها التأثير على قرارات رجال القضاء قبل صدور الحكم غير القابل في قضية ما، إلا أن الأبحاث التي أجريناها لم تسمح لنا بالحصول على اجتهادات في هذا المضمار.
ويمكن القول بأن تأثير الرزي العام ووسائل الإعلام يكون له وقع سلبي كذلك على مهنة الدفاع، إذ تتم المحاكمة في جو من الضغوط النفسية إذا كان القاضي منحازا إلى ما تورده وسائل الإعلام، ويمكن القول بأ المحامي يفطن منذ أول جلسة لتأثير أو عدم تأثير الرأي العام ووسائل الإعلام على القاضي مما يجعل المحاكمة تمر في جو هادئ أو في جو هادئ، أو في جو من التوتر الشيء الذي لا يسمح للدفاع بالقيام بمهامه بحرية واستقلال.
واستقلال القاضي عن الرأي العام ووسائل الإعلام واقتصاره على الأدلة والمناقشة التي تمت أمامه من الشروط الضرورية للمحاكمة العادلة، ومن الشروط الضرورية كذلك الدفاع للقيام بمهامه دون ضغط الشارع لأن المحامي المدافع عن الشخص الذي أشارت إليه الأصابع عادة ما ينظر إليه كالشريك، ومن تم تكون مهمته صعبة للغاية، إلا إذا وجد نفسه أمام قضاء مستقبل يكفل لموكله جميع حقوق الدفاع.
ثالثا- استقلال القضاء عن سلطة المال وعن سلطة النفس الأمارة بالسوء:
قال صلى الله عليه وسلم: "كاد الفقر أن يكون كفرا" وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو كان الفقر رجلا لقتلته"، ومن تم وجبت محاربة العوز المادي داخل الجهاز القضائي برمته وتمكينه من جميع الإمكانات التي تصون كرامة أفراده ذويهم، وقد عمل المغرب في هذا الاتجاه منذ سنوات خلت حيث أصبحت وضعية القضاة وضعية مريحة بالمقارنة مع رجالات من نفس المستوى الجامعي يعملون في قطاعات أخرى، إلا أن الملاحظ هو الخطر الذي يهدد هذه المؤسسة برمتها من خلال داء الرشوة الذي تفشى وبشكل مهول داخل جهاز اعدل، وقد جاء في تقرير ترانسبارنسي المغرب ليوم 6 يناير 2004 أن البحوث الميدانية حول النزاهة تؤكد المستوى المترفع الذي بلغته الرشوة في بلادنا ومدى الابتذال الذي وصلت إليه هذه الظاهرة، إذ لم يعد بإمكان أحد أن يدعي أن هذه الظاهرة غير معرفة في بلادنا أو أنها بمثابة انحراف يمكن تقويمه بإجراءات ظرفية".
والرشوة في القضاء هي ما يعطي لمن لا يستحق على حساب من يستحق، وذلك بغية كسب قضايا ما كان لهت أن تكتسب دون مقابل والراشي لا يدفع رشوته إلا أنه يعلم أن هناك حق لغيره، يرغب هو في هدره.
والرشوة آفة اجتماعية لأنها إعانة على الظلم والعدوان وهدر لكرامة الإنسان، لما يترتب عنها من ضياع للحقوق وفساد للمجتمع، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم "لعن الله الراضي والمرتشي والرئش، أي الوسيط بينهما"([42]).
والرشوة داخل الجهاز القضائي دلالة على فساد القضاء وموت الضمير وترك الأخلاق والتنافس على تقديم الرشوة بدل التنافس على تقديم البينة، والرشوة تربك القانون وتضعف المدافعين عنه بل هي تقتل القانون المتعارف عليه وتبرز قانون المال وتزيل كل وقار على القضاء.
وإذا كانت الرشوة في المجتمع تعتبر عن فساد دوائر الدولة وغياب الرقابة وموت الضمير وترك الأخلاق واعتبار المادة دون غيرها، فإن تفشيها في الجهاز القضائي هو مؤشر على هلاك الدولة برمتها باعتبار أن السلطة القضائية التي من المفروض أن تحارب الرشوة هي نفسها مرتشية.
حقيقة أن المشرع واع بمرض المجتمع، هذا وقننه بالنسبة للقضاة حيث يمنع على هؤلاء أن يباشروا إلى جانب مهامهم أي نشاط بأجر أو بدونه باستثناء التعليم إذا رخص لهم بذلك وزير العدل، وإذا كان زوج القاضي يمارس نشاطا خاصا يدر عليه نفعا القاضي بذلك لوزير العدل ليتخذ أو يأمر باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على استقلال القضاء وكرامته (الفصل 15 من النظام الأساسي لرجال القضاء) كما يلزم المشرع القاضي بالتصريح كتابة بما يملكه من عقار وقيم منقولة، وكذا ما يملكه منها زوجه وأبناؤه القاصرون ويقدم تصريحا إضافيا فورا كلما حدث تغيير في وضعيته المالية (الفصل 16)، ويتتبع وزير العدل ثروة القضاء بواسطة التفتيش (الفصل 17) إلا أن الملاحظ هو أن هذه النصوص لم يكونوا يملكون شيئا عد التحاقهم بمهامهم، وأصبحوا بين عشية وضحاها من أصحاب الفيلات والضيعات والعمارات والسيارات الفخمة، ناهيك عن مستواهم المعيشي اليومي المرتفع جدا، ودون أن تقوم الوزارة المكلفة بالتدقيق في مصدر هذه الثروات.
ولا يمكن لأحد أن يجادل في تفشي آفة الرشوة لدى الكثير من القضاة ومن يدور في فلكهم، فتقارير ترانسبارانسي المغرب في متناول الجميع للإطلاع على هذا الورم الخبيث الموجود في جسم القضاء، وأمام السيل الذي بلغ الزبى في جميع أنحاء المغرب فإن صحافيا كتب "إن قريبة من الحطب بأكثر ما تتحمله سلامة البلاد"[43]. ولا يمكن القضاء على هذه الآفة إلا بالإدارة السياسية المنعدمة في بلادنا، والتي إن هي تحركت أعيدت الثقة للمواطن في إدراته وفي قضائه ومن تم في وطنه، حقا إن المشرع أدخل تعديلا جوهريا على القانون الجنائي عن طريق تشديد العقوبات السالبة للحرية والرفع من العقوبات المالية، كما تمت إضافة عقوبة المصادرة لفائدة الدولة كعقوبة إضافية، وتمديدها لتشمل الأموال والقيم المنقولة والممتلكات والعائدات المتحصلة من ارتكاب الجريمة أيا كانت هذه الأموال، وأيا كان المستفيد منها، كما أضيف لمجموعة القانون الجنائي فصل جديد يتمتع بموجبه الراشي المبلغ عن الجريمة للسلطات القضائية بعذر معف من العقاب، وذلك لتشجيع التبليغ عن جريمة الرشوة، إلا أن الإرادة السياسية لا زالت تتردد في هذا المجال، وربما أنها تنتظر في هذا المجال، وربما أنها تنتظر الضوء الأحمر من جهة معينة في دق الطبول كعادتها.
وملخص القول إذا لم يستطع التحرر من جذب المال الحرام، فإنه يقضي على الثقة في القضاء وعن وقار القضاء ومن تم يقضي على مصداقية الدولة.
ولا يمكن للمحامي مهما بلغت درجة كفاءته وحنكته أن يقوم بمهامه وهو غير مطمئن لقاض مرتش إذ بدل التنافس على الأدلة والأدلة المضادة فإن المنافسة تنتقل إلى من سيعطي الأكثر من المال.
ولا بد من الوقوف هنا على الدور الذي تلعبه بعض العناصر الفاسدة من المحامين كذلك في نشر الرشوة في عالم القضاء، إذ أصبح البعض منا "سماسرة" لبعض القضاة يشاركونهم ويقتسمون معهم المال الحرام، فانعدام الشعور بالمسؤولية أدى إلى سريان حالة من الاستهتار لدى البعض منا، استهتار بالقوانين واستهتار بالمتقاضين واستهتار بمهن الدفاع وبالقضاء ككل والنتيجة هي ما آلت إليه المحاماة من عدم ثقة المجتمع في الأفراد المكونين لها إذ عاد هذا المجتمع ينظر منا نظرة احتقار لما تقوم به من مساعدة على هدر  الحقوق.
ولا بد من تقويم العناصر الفاسدة أو استئصالها إن لم تنفع فيها عملية التقويم سواء تعلق الأمر بالقضاة أو بالمحامين الذين يشاركونهم في تخريب عالم القضاء لتعود الثقة في هذا الأخير من طرف المتقاضين وتصح مقولة العدل أساس الملك.
ومن جهة أخرى، فإن الاستقلال فضيلة لا تمنح فقط بالقوانين فقط بالقوانين بل يجب استحقاقها على أرض الواقع، والقاضي بطبيعة الحال فرد من أفراد المجتمع ينتمي لعائلة معينة وينتمي لمنطقة معينة أو لقبيلة أو لعرق معين، كما يمكن للقاضي أن يكون له تعاطف مع جهة سياسية معينة بالرغم من أن المشرع يمنع عليه كل نشاط سياسي وكل موقف سياسي (الفصل 13 من النظام الأساسي لرجال القضاء)، فلا يكفي القاضي الابتعاد عن سلطة المال، بل عليه أن يتحدى تنازع المصلحة الشخصية أو العائلية أو العرقية أو القبلية أو السياسية ليبرهن للجميع على أنه فعلا محايدا مستقلا وقورا.
ويشعر المحامي أمام هذا القاضي بنوع من الارتياح لأنه في قرارة نفسه مؤمن باستقلاله عن سلطة المال وع سلطة النفس الأمارة بالسوء.
رابعا: استقلال القضاة عند أداء مهامهم:
لا أحد يجادل في الدور الذي يقوم به القضاة في المجتمع، وجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وإذا كان القاضي بشر مثلنا فإننا ننتظر منه نحن جميعا أن يكون فوق البشر رغم وضعيته الفردية عند أدائه لمهامه وقلة الإمكانات وتراكم الملفات ورغم عدم استقلاله عن باقي السلط وخصوصا عن السلطة التنفيذية، غير أن الاستقلال الفعلي القاضي رهين بضميره وبحيادة وبنزاهته، ففض النزاعات بكل أمانة وموضوعية دون التحيز لفائدة أحد الخصوم يقتضي من القاضي أن يكون محايدا ونزيها، ومن تم وجبت دراسة الوضعية الفردية للقضاة وحصانتهم قبل دراسة بعض الصفات المطلوبة في القاضي.
أ- الوضعية الفردية للقضاة وحصانتهم:
يعين القضاة في المغرب من طرف الملك باقتراح من مجلس الأعلى للقضاء طبقا للفصل 33 والفصل 84 من الدستور، إلا أنه قبل هذا التعيين فإن المرشح الحاصل على الإجازة في الحقوق يجتاز مباراة لولوج المعهد العالي للقضاء، الذي هو مؤسسة عمومية بصريح الظهير المحدث له – حيث يقضي سنتين من الدراسة والتمرين في هذا المعهد وفي المحاكم تتوج بامتحان نهاية التدريب ولا دخل للمجلس الأعلى للقضاء في الانتقاء وفي التأطير وفي التكوين بل يقتصر دوره على المباركة لا غير باقتراح من أتم تدريبه على الملك، ويمكن للمجلس الأعلى للقضاء أن يقترح على الملك أيضا بعض الأشخاص في السلك القضائي، ومن تم فإنه يسمح بولوج سلك القضاء لأساتذة التعليم العالي الذين قضوا عشر سنوات في تدريس المادة الأساسية للمحامين الذين لهم أقدمية لا تقل عن خمس عشر سنة في مهمة المحاماة، أما بالنسبة للمحاكم الإدارية فإنه يسمح بإلحاق موظفين منتمين إلى درجة مرتبة في سلم الأجور رقم 11 أو درجة في حكمها بشرط أن يكونوا قد قضوا عشر سنوات في الخدمة العامة وحاصلين على الإجازة في الحقوق أو ما يعاديها (الفصل 3 من النظام الأساسي لرجال القضاء كما غير وتمم بظهير 10 شتنبر 1993).
وتجدر الملاحظة هنا إلى أن المعهد العالي للقضاء ورغم أنه مؤسسة عمومية، فإن هيمنة الجهاز التنفيذي، أي وزارة العدل، عليه سواء من حيث التأطير أو من حيث البرامج أو من حيث امتحان نهاية التدريب يحد شيئا من استلاله، كما يمكن القول بأنه لا دخل للمجلس الأعلى للقضاء- الذي يمثل بواسطة وزير العدل وكاتب المجلس- في المعهد العالي للقضاء، ومن تم فإن القاضي يشعر دائما بشعور التبعية لهذه الوزارة ويصعب عليه أن يحس بالتجرد نحوها رغم أن الدستور يضمن استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وإذا كان تعيين قضاة الحكم يتم من قبل الملك على اقتراح من المجلس الأعلى للقضاء، فإن الأمر على عكس ذلك بخصوص قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق، وإذا كان وزير العدل يشرف على السياسة الجنائية طبقا للمادة 51 من قانون المسطرة الجنائية فإن المادة 38 من قانون المسطرة الجنائية تلخص وضعية قضاة النيابة العامة الذين يخضعون "للتعليمات التي يتلقونها" أما قضاة التحقيق فإنهم كذلك لا يتوفرون على أدنى استقلالية من خلال النصوص الحالية، فتعيينهم وإعفاؤهم من مهامهم يتم بقرار لوزير العدل بدل المجلس الأعلى للقضاء طبقا للمادة 51 من ق.م.ج، بل إن رئيس المحكمة وبناء على طلب النيابة العامة بإمكانه إصدار قرار نظامي بتعيين قاض التحقيق من بين القضاة أو مستشاري المحكمة في حالة الاستعجال والظروف المنصوص عليها بالمادة 53 ق.م.ج وأكثر من هذا وذاك فإن النيابة العامة التي تعين من يحقق في كل قضية إذا تعدد قضاة التحقيق طبقا للمادة 90 من نفس القانون، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على عدم استقلال قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق على هيمنة وزير العدل وهو ما يضر بالعدالة ككل.
وبالرجوع إلى قضاء الحكم، فإن استقلال القضاة رهين بتحصين القاضي من النقل والعزل دون الكلام عن تحصينه ماديا، ومن تم فإنه لا يجوز إبعاد القاضي من منصبه سواء بطريقة الفصل أو الإحالة على التقاعد أو الوقف عن العمل أو النقل إلى وظيفة أخرى إلا في الأحوال بالكيفية المنصوص عليها بالقانون.
ينص الفصل 83 من الدستور على ما يلي: "لا يعزل قضاة الأحكام ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون"، وأكيدا على الحصانة فإن الفصل 69 من النظام الأساسي لرجال القضاء ينص على عدم إمكانية ترقية القضاة المنتخبين بالمجلس الأعلى للقضاء من درجة لأخرى ولا نقلهم ولا انتدابهم مدة انتخابهم.
وينص الفصل 33 من النظام الأساسي لرجال القضاء على ما يلي: "يمكن لقضاة الأحكام أن يعينوا في مناصب جديدة بطلب منهم أو نتيجة ترقية أو إحداث محكمة أو حذفها" ويمكن القول بأن النقل إذا كان موضوعيا مجردا مبني على الفصل 33 هذا لا يطرح مشاكل كثيرة باعتبار أنه يتم بظهير باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء، أما ما يسمى بالانتداب القضائي المنصوص          عليه بالفصل 57 من النظام الأساسي برجال القضاء، فإن المشرع أدخله في اختصاصات وزير العدل وأعطاه صلاحية  انتداب أحد القضاة لتغطية النقص الحاصل في عدد القضاة بمحكمة معينة تفاديا لتعطيل المرفق العمومي أثناء عدم انعقاد دورات المجلس الأعلى للقاء، ويتم الانتداب لمدة ثلاثة اشهر في السنة يمكن تجديدها بموافقة القاضي المعني بالأمر، إلا أن الانتداب القضائي يستغل أحيانا كإجراء "تأديبي لا يمث بصلة للمصلحة العامة الشيء الذي يجعل جل القضاة تحت التهديد وتحت رحمة وزير العدل.
إن استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية بمقتضى الفصل 82 من الدستور الذي يعتبر بحق هو القانون الأسمى للبلاد يجعلنا نشك شيئا في دستورية الفصل 57 من القانون الأساسي لرجال القضاء وكنا نتمنى ومنذ سنة 1974، أن تكون لبعض القضاة الشجاعة والجرأة لطرق بابا المجلس الدستوري إلا أن بعضهم اقتصر على اللجوء إلى المحاكم الإدارية لإلغاء قرار وزير العدل باعتباره قرارا إداريا يمكن الطعن فيه بالإلغاء للشطط في استعمال السلطة([44]).
ولا تقتصر حصانة القاضي على النقل بل تمتد إلى العزل وهو أخطر من النقل لأنه يضع حدا لماهم القاضي لذا فإن الدستور نص في الفصل 85 على أن قضاة الأحكام لا يعزلون ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون، إلا أن لوزير العدل وطبقا للفصل 62 من النظام الأساسي لرجال القضاء الصلاحية في إيقاف القاضي حالا إذا ارتكب خطأ خطيرا، وكان على المشرع أن يحدد طبيعة "الخطأ الخطير" لا يتركه عبارة فضفاضة يصعب حصرها، حقيقة أن الأمر لن يطرح صعوبة إذا تعلق بجريمة لا لبس فيها إلا إن ترك تقدير الأمر للسلطة التنفيذية يمس باستقلال القضاء لأنه ولو قضى المجلس الأعلى للقضاء ببراءته وأعاد لمنصبه فإن قراره لن عيدي لهذا القاضي كرامته.
وفي نفس السياق، وبخصوص ترقية القضاة فإن الدستور المغربي نص في الفصل 87 منه على أن المجلس الأعلى للقضاء يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة فيما يرجع لترقيتهم وتأديبهم، إلا أنه وباستقراء الفصول 23، 24 و25 من النظام الأساسي لرجال القضاء، وكذا مرسوم 8 أبريل 1975 المتعلق بتحديد شروط ورتب الترقي والأرقام الاستدلالية والفصل 7 من مرسوم 23 سبتمبر 1975 المتعلق بتحديد شروط كيفية تنقيط القضاة وترقيتهم يظهر الدور المحوري مرة ثانية لوزير العدل باعتبار هذا الأخير هو المكلف بإعداد لائحة الأهلية للترقي، ولا يمكن ترقية أي قاض إلى الدرجة الأعلى في حدود المناصب الشاغرة إن لم يكن مسجلا في لائحة الأهلية التي يعدها وزير العدل، ويعتبر تدخل وزير العدل، ويعتبر تدخل وزير العدل في إعداد اللائحة المذكور ضربة أخرى لاستقلال القضاء، وهناك من يذهب إلى ابعد من ذلك ويعارض في تفاوت الرتب والدرجات والترقية محفوف بالمخاطر ومن شأنه أن يهدد القضاء، لأن الترقية توحي بأن القاضي موظف عادي يطمح من خلالها في تحسين وضعيته المادية، بينما المفروض أن يكون جميع القضاة على قدم المساواة بعيدين عن الحاجة، كما هو الشأن تقريبا بالنسبة للقضاء البريطاني مثلا، ولا بد هنا من الإشارة كذلك لمسطرة التنقيط التي يسهر عليها رئيس المحكمة ويبقى التنقيط سريا لا يحق للقاضي الإطلاع عليه، التنقيط من قبل رئيس المحكمة يجعل القاضي تابعا لرئيس المحكمة يوجهه كيفما شاء ويعطيه التعليمات التي يشاء ويفقده استقلاله وتجرده أحيانا، وتعتمد التقية على عدد الملفات التي بت فيها القاضي خلال السنة دون التعمق فيما بذله من مجهود في مضمون هذه الأحكام، حيث أصبح الصراع والمنافسة يقتصران على العدد (الهائل غالبا من أحكام عدم القبول)، حتى إنني اقترحت في ندوة من الندوات أن تزال اللام عن وزارة العدل لتصبح التسمية "وزارة العدل".
ولا بد هنا من الإشارة إلى مقتضيات الفصل 61 من النظام الأساسي لرجال القضاء الذي يعطي لوزير العدل كأحد أعضاء السلطة التنفيذية الحق في إخبار المجلس الأعلى للقضاء بالأفعال المنسوبة للقاضي، أي أن وزير العدل هو الذي يعرض –أو لا يعرض- على هذا المجلس جميع الخروقات المتعلقة بالقضاة، وهو أمر غير طبيعي وغير سليم بالمرة، كما أن وزير العدل هو الذي يتلقى عادة شكايات المتقاضين وشكايات المحامين حيث يأمر (أو لا يأمر) بإجراء تفتيش حول مضمون الشكاية، وباعتبار أن المفتشية تابعة لوزارة العدل كجهاز تنفيذي، فإنه لا يمكن الكلام بعد عن استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية.
وأمام تداخل اختصاصات وزير العدل كأحد أعضاء السلطة التنفيذية في الوضعية الفردية للقضاة، وفي كل من يسبح في المحيط القضائي من موظفين وأعوان ومفتشين وبنايات وموارد مختلفة وغيرها، فإنه لا بد من من إيجاد حل ليصبح للقضاء سلطة مستقلة استقلالا مطلقا عن السلطة التنفيذية كما هو الشأن بالنسبة للسلطة التشريعية، وهذا الحل لن يتأتى إلا بالإرادة السياسية المغربية التي بإمكانها أن تكون السباقة في خلق جهاز مستقل يطلق عليه اسم "المجلس الأعلى للقضاء" على غرار مجلس النواب تكون له ميزانية خاصة مستقلة وتجمع فيه الموارد البشرية (والمادية) التي تعمل في حقل القضاء، ونظرا لتشعبه فإن هذا الموضوع يمكن أن يكون محور دراسة مستقلة ومفصلة.
وأمام قضاة لا يؤمنون أنفسهم باستقلالهم الفعلي عند قيامهم بمهامهم، لأنهم ينتظرون في غالب الأحيان أن يرن جرس الهاتف في هذا الملف أو ذاك، فإن المحامين يعانون في عملهم من قضاة تنقصهم الجرأة، وتنقصهم الشجاعة لرد التدخلات والتوصيات حيث يشعر الدفاع وفي كثير من الأحيان أنه واقف أمام موظف عادي تابع لوزارة العدل لا أمام قاض مستقل.
وكثير من زملاؤنا الذين أصيبوا بإحباط المعنويات بل وبأمراض مزمنة بسبب الصدمات الناتجة عن الأحكام والقرارات المجانبة للصواب والتي لو عرضت على لجنة مختصة ومحايدة لأعيد النظر في غالبيتها.
ومع ذلك تبقى غالبية المحامين صامدة في انتظار أيام أحسن، لأن أجهزتها غير قادرة على تغيير المنكر، بل يوجد أفراد داخلها يساهمون في تعميم الفساد كأن لهم حقد على مهنة المحاماة وحقد على هذا البلد.
ب- من صفات القاضي:
ينص الفصل 13 من النظام الأساسي للقضاة ما يلي: "يحافظ القضاة في جميع الأحوال على صفات الوقار والكرامة التي تتطلبها مهامهم"،  إلا أن هذه الصفات غير كافية لوحدها بالنسبة للقاضي، إذ يفترض في القاضي صفات أخرى متعددة تقتصر منها على الإشارة إلى ثلاثة صفات أساسية وهي الحياد والنزاهة وحسن الخلق.
1- الحياد:
القانون رهين بالحياد باعتبار أن القاعدة القانونية قاعدة مجردة، وإذا كانت القوانين لا تفسر ولا تطبق بمنظور حيادي، فإن القانون كما نعرفه وكما درسناه سيتوقف عن الوجود، لا يمكن فصل الاستقلال عن الحياد في الجهاز القضائي، كما أن الحياد في القضاء شرط وجود إن هو اختفى قضي على القضاء، وأصبح هذا الأخير مبني على هوى القاضي، حقيقة أن الصراع من اجل الحياد للغاية بالنسبة للشخص العادي إذ يبقى هذا الأخير إنسانا بضعفه وانفعاله وميولاته وعاطفته ومعتقداته وعقده ومؤهلاته ومسؤولياته ومصالحه، إلا أن الأمر لا يقبل عذرا بالنسبة للقاضي لأن الحياد شرط وجود بالنسبة للقضاء.
والحياد يعني أن تكون للقاضي مناعة خلقية تبعده عن الإغراءات والمال والجنس وغيرها، وتصونه من الانحراف والزلل، كما على القاضي أن يبتعد عن الانتماءات السياسية تفاديا لتأثير الروابط الحزبية عن الأدلة الموضوعية، فالسلطة القضائية تفصل أحيانا في مسائل لها طبيعة سياسية ولها آثار سياسية ومن شأنها لا محالة وضع القضاة في مرمى الأسلحة السياسية، وبالتالي فعلى القاضي ألا يتحول إلى أداة لترسيخ إيديولوجية سياسية معينة والانتصار لها على منصة القضاء، وعلى حساب إلقاء في مواجهة معارضيها وذلك حتى لا يتخلى عن مفترضات الحياد، وقد أكد هذا المنع النظام الأساسي لرجال القضاء في المادة 13 التي تنص على أنه "يمنع على الهيئة القضائية كل نشاط سياسي وكذا كل موقف يكتسي صبغة سياسية"، وقد سبق القول بأن الضرورة تقتضي كذلك أن يكون وزير العدل بعيدا عن السياسة باعتباره ويتقلد مهمة عالية بالمجلس الأعلى للقضاء – وأمام المهام التي خوله المشرع إياها للتدخل في القضاة- وباعتبار أن القاضي بشر من شأن ضعفه محاباة الجهة السياسية التابع لها وزيره.
2- النزاهة:
يطالب الجميع دائما بأن تكون الأحكام نزيهة، ولكي تكون كذلك فإنه من البديهي أن يكون من يصدرها نزيها، والنزاهة تعني الابتعاد عن الإغراءات كيفما كان نوعها سواء كانت طمعا في مال أو في ترقية أو في منصب من المناصب أو إرضاء لجهة من الجهات أو خوفا أو رهبة  من هذه الأخيرة، وكم منا نحن المحامين لم يسمع في يوم من الأيام هذا العذر الذي يدل على عدم استقلال صاحبه: "التعليمات يا أستاذ" فعلى القاضي أن يكون نزيها مع ضميره قبل أن يكون نزيها مع المتقاضين الذين يضعون كل ثقتهم في حياده وفي نزاهته، وإذا فقدت هذه الثقة فإن جميع دواليب الدولة تؤدي الثمن  وتؤديه غاليا لأن المشهد القضائي بالبلاد هو الذي يعكس صورة هذه الأخيرة التي تصبح قاتمة في حالة هدر العدالة لأن دولة الحق والقانون لا يجب أن تقتصر على سن ترسنة من القوانين كما هون الشأن بالنسبة للمغرب، بل هي سلسلة مرتبطة ما بين التشريع والتطبيق السليم وتنفيذ الأحكام القضائية والمصداقية في نزاهة القضاة أمر أساسي لا محيد عنه، وأعرف الكثير منا رفضوا المثول أمام هيئة يعلمون عدم نزاهتها وطلبوا من زملاء آخرين النيابة عنهم لأنهم يعلمون مسبقا مآل ملفات موكليهم ولا يستطيعون المشاركة في تزكية الخدعة القضائية.
3- حسن الخلق:
قال الله عز وجل في حق رسوله المصطفى: "وإنك لعلى خلق عظيم"([45]) إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين محاسن الأخلاق ومحاسن الآداب وقال أحمد شوقي "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت- إن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا". كما قال: "صلاح أمرك بالأخلاق مرجعه – فقوم النفس بالأخلاق تستقم"، ومن الأخلاق نقتصر على الإشارة إلى حسن الخلق.
وحسن الخلق يمكن في طلاقة الوجه وكثرة الحياء وانعدام الأذى وثرة الصلاح وصدق اللسان وقلة الكلام وكثرة العمل وقلة الزلل والفضول وبر الوصول وقمة الوقر وقوة الصبر وكثرة الشكر والرضا والحلم والرفق والعفة والشفقة وعدم التسرع وغياب الحقد والحسد.
وأقف عند بشاشة وطلاقة الوجه لأشير إلى أن كثير من قضاتنا لقنوا التجبر وسوء الخلق سواء في تعاملهم مع المتقاضين أو في تعاملهم مع المحامين، ولم يستوعب القاضي المغربي بعد أن المتقاضي لم يعد رعيه بل أصبح مواطنا ومستهلكا للقضاء ينتظر من القضاة معاملته باحترام وبالمستوى الذي يستحقه كإنسان وكمستهلك، وإذا كانت حقوق الإنسان تحتم على القاضي أن يتعامل مع المتقاضي بطريقة تحفظ له كرامته وعزة نفسه فإن الملاحظ من خلال جلسات المحاكم هو عكس هذا المعطى، إذ يستشف من خلال المعاملة الجافة للقضاة أن كل متقاض منهم إلى أن تثبت براءته ولو أثناء جلسات بعيدة كل البعد عن العالم الجنائي حتى يتصور للمرء في كثير من الأحيان أن القاضي طرف في النزاع.
ويمكن قول نفس الشيء عن معاملة الكثير من القضاة لدفاع المتقاضين باستفزازهم للمحامين، وهذا لا يخدم العدالة في شيء، إذ يزيل كل وقار عن القضاء وعن حسن معاملة بين أفراد من المفروض أن يتعاونوا على الوصول إلى الحقيقة.
ولا يمكن تحميل المسؤولية للمعهد العالي للقضاء لوحده، بل المسؤولية مشتركة بين الأسرة والمحيط الاجتماعي والمدرسة والثانوية والكلية والمعهد العالي للقضاء وأجهزة نقابات المحامين، فالتربية أساس الحياة الاجتماعية، ولا يمكن التعايش لأفراد لا يعرفون احترام الآخر ورأي الآخر([46]) إذ يعود الجو في مجمله مشحونا بالأحقاد والتنافر، وإذا كانت مسؤولية الأسرة في هذا المضمار لا غبار عليها ولا تحتاج إلى شرح، فإن المسؤولية كذلك ترجع للمدارس والمعاهد والكليات التي لم تفلح في تهذيب وصقل أخلاق وآداب روادها، أما مسؤولية المعهد العالي للقضاء فهي ثابتة من خلال عدم حسن انتقاء بعض المرشحين لمهنة القضاء، وتبقى مسوؤلية أجهزة هيئات المحامين قائمة كذلك في هذا المجال إذ مع الزمن أصبح جل من يتقلد مهام قيادتها يستهين بمسؤولياته، ولا رغبة في تأطير ذويه والدفاع عنهم وعن مصالحهم.
ونتيجة لضعف شخصية بعض المحامين ونتيجة ضعف الكثير من أفراد النقابات فإن بعض القضاة الذين لا يجدون قوى مضادة لإجبارهم على احترام المتقاضي ودفاعه ومن تم على احترام مهنة المحاماة سيستمرون في تعاملهم اللاأخلاقي، الشيء الذي يهز وقار القضاء ويبرهن على أن القضاة لم يتحرروا بعد من عقدهم ولم يصلوا بعد إلى مستوى قضاة رشداء، مستقلين، نزهاء ومسؤولين.
4- الاجتهاد:
يمكن أن ندخل ما يقوم به القاضي من اجتهاد ومن قدره على الابتكار ضمن الصفات التي يجب أن يتحلى بها، فمن اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد، وبجانب البحث والتنقيب بخصوص القضايا المعروضة عليه، فإننا نجد قضاة يقومون بمجهودات محمودة سواء في مجال التدريس أو في مجال الكتابة، إلا أن الملاحظ هو أن لقضاة مكبلي الأيدي سواء تعلق الأمر بالتدريس أو بالتأليف والنشر. ويتوقف السماح بالتدريس والنشر مع الإشارة إلى صفة القاضي على إذن كتابي لوزير العدد- دائما هذه السلطة التنفيذية- (الفصل 15 من النظام الأساسي لرجال القضاء) وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على عدم استقلال القاضي باعتباره تابع لوزير العدل في عدة مجالات، كما يعتبر الإذن قبل النشر مس خطير بحرية التعبير لا يشجع القاضي على الدراسة والابتكار والنشر.
انعكاس استقلال القضاء ونزاهته على مهنة المحاماة
لا يمكن الكلام عن القضاء واستقلال القضاء دون التطرق للمحاماة كمهنة، والمحاماة ظهرت منذ أن وجدت الخصومة[47]، وهي من الحماية خلقت الدفاع عن حياة الإنسان وعن حريته وكرامته وعرضه وماله، وتشكل المحاماة من تم الركيزة الأساسية لتحقيق العدل وإن كانت المحاماة مهنة حرة ومستقلة فإن المحامون يشكلون مع ذلك جزء لا يتجزأ من أسرة القضاء باعتبارهم يشاركون السلطة القضائية في تحقيق العدل وتأكيد سيادة القانون.
وينص الفصل الأول من ظهير 10 شتنبر 1993 بمثابة قانون والمتعلق بتنظيم مهنة المحاماة على أن "المحاماة مهنة حرة مستقلة تساعد القضاء في تحقيق العدالة والمحامون بهذا الاعتبار جزء لا يتجزأ من أسرة القضاء" إلا أن المحاماة أكبر بكثير من التعريف البسيط أو المبسط الذي جاء به القانون المذكور باعتبار ارتباط المحاماة بنصرة الحق والدفاع عن المظلوم وإرساء دولة القانون والمؤسسات، ولا أحد يجادل في كون المحماة تعد كذلك معقلا للدفاع عن الحرية وعن استقلال القضاء.
وحق الدفاع حق مقدس من الحقوق الأساسية للإنسان يقاس به المستوى الحضاري والديمقراطي للمجتمع.
ومن هذا المنطلق لم تكن مهنة المحاماة في يوم من الأيام مهنة غذائية بل هي رسالة إنسانية سامية، شريفة ونبيلة، رسالة مبادئ ومواقف تساهم في تكريس الحضارة وفي دعم العمل الديمقراطي في المجتمع، ومن تم كان يشترط دائما وأبدأ في الراغب في تحملها وتحمل مخاطرها أن تكون له الموهبة وأن يتمتع بخصال الشجاعة الأدبية والجرأة والذكاء، والفطنة وسرعة البديهة وما يعرف "بالحضور" والإلمان بالقوانين وبقدرة الجدال بالتي هي أحسن وقدرة الإقناع إلى جانب خصاب الصدق والنزاهة والاستقامة والشرف.
والمحاماة أمانة ومسؤولية ولا غرابة في ذلك، إذ يعيش المحامون يوميا آلام وآمال المواطنين وهم مسؤولون عن الدفاع عان كرامة الإنسان، ورد الحقوق لأصحابها ودفع الاتهام الباطل عنهم ومراقبة التشريع ومناقشته وانتقاده واقتراح البدائل، والمساهمة في تطوير المجتمع بهدف تحقيق تقدمه وأمنه واستقراره إلى جانب المهام الأخرى الملقاة على عاتق المحامي.
ومن تم كان للمحامين ولا يزال إسهامات قوية في بسط العدالة وتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ف المجتمع، وكان للكثير منهم نصيب الأسد في تقلد المناصب العليا ذات المسؤولية، ومن اطلع على التشكيلات الوزارية الت انطلقت في المغرب منذ فجر الاستقلال إلى اليوم سيكون له تصور عن ذلك، وقد كان الأمر دائما وأبدأ على هذا النحو في الدول الأخرى، حيث كان المحامي مبجلا مدللا إلى درجة لويز الثاني عشر: "لو لم اكن ملكا لفرنسا لوددت أن أكون محاميا"، أو كقول فولتير: "كنت أتمنى أن أكون محاميا لأن المحاماة أجل مهنة في العالم".
إلا أن الوضع أصبح اليوم مختلف في المغرب بالنسبة للمحماة التي اضحت تعاني الأمرين أمام عدم استقلال القضاء، وعدم نزاهة الكثير من القضاة وأصبحت توضع علامة استفهام أما ومستقبل هذه المهنة إن كان لها مستقبل حقا.
إن المواطن لا يطرق باب مكتب المحامي لهوا ولكنه يقدم على ذلك لأن جميع الأبواب قد سدت في وجهه، والمحامي لا  يطرق أبواب المحاكم عبثا ولكنه يطرقها للدفاع عن مصالح موكله ولإقناع القضاة بإنصاف هذا الموكل، وينتظر هذا المواطن كما ينتظر محاميه أن يجد قضاء نزيها محايدا مستقلا يمكن الاطمئنان إليه. ومن بين مهام المحامي الدفاع عن استقلال القضاء والدفاع عن استقلال القضاة. وهذا الدفاع لا يجب أن يقتصر على سن النصوص فقط، بل يجب أن يتبلور على أرض الواقع حتى يحس الواقع المتقاضي بالاطمئنان على شخصه وماله وشرفه.
ولن أدخل في تفاصيل مهام المحامي وما يمكن لهذا الأخير أن يقوم به لفائدة موكليه لأن هذا المحور لا يدخل في إطار هذا البحث من جهة، ولأنني تطرقت لبعض جوانبه سابقا في دراسة أخرى[48] إلا أن الموقف قليلا عند المبادئ الأساسية للمحاكمة العادلة من شأنه أن ينير الطرق لمن يستخف بمهام الدفاع.
إن الحق في المحاكمة العادلة من الحقوق الأساسية للإنسان، فالناس جميعا سواء أمام القانون، ومن حق كل فرد لدى الفصل في أي تهمة جزائية توجه إليه في حقوقه ولالتزاماته في أي دعوى مدنية أن تكون قضيته محل نظر وعلني أمام محكمة مختصة ومستقلة ومحايدة منشأة بحكم القانون، وقد وضع المجتمع الدولي مجموعة من المعايير لضمان المحاكمة العدالة، وتنص المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته الجمعية العامة لحقوق الإنسان على أن "لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة نظرا منصفا وعلنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وفي أية تهمة جزائية توجيه إليه" كما أن الفصل 14 من العهد الدولي بالحقوق المدنية والسياسية ينص على أن نمن حق كل متهم بارتكاب جريمة أن يعتبر بريئا إلى أن يثبت عليه الجرم قانونا "تبنى القانون الجديد للمسطرة الجنائية هذا المبدأ بالمادة الأولى منه) وأن "من حق كل فرد أن تكون  قضية نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية منشأة بحكم القانون.ومن جملة ما اقره المنتظم الدولي أنه "لا يجوز القبض على أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون وطبقا للإجراء المقرر فيه". ويجب تفسير التعسف دون الاقتصار على اعتبار إجراء مخالفا للقانون فحسب، بل يجب تفسيره بصفة واسعة تشمل عدم اللياقة والظلم وعنصر المفاجأة.
ويعتبر المجتمع الدولي وخصوصا المبدأ 13 من مجموعة مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز، أو السجن، إبلاغ المعني بالأمر بحقوقه من المعايير الأساسية للمحاكمة العادلة إذ ينص على ما يلي: "تقوم السلطة المسؤولية عن إلقاء القبض أو الاحتجاز أو السجن على التوالي بتزويد الشخص لحظة القبض عليه وعند بدء الاحتجاز أو السجن أو بعدها مباشرة بمعلومات عن حقوقه وتفسير لهذه الحقوق وكيفية استعمالها"، كما تذهب في نفس السيادة المادة 9 من العهد الدولي المذكور آنفا.
كما أن من حق كل محتجز توكيل محام للدفاع عنه في جميع مراحل الإجراءات الجنائية (المبدآن 16 و17 من العهد الدولي)، وينص المبدأ 7 من المبادئ الأساسية المتعلقة بدور المحامين على أن حق المحتجزين الاستعانة بمحام فورا، وبأي حال خلال مهلة لا تزيد عن 48 ساعة من وقت القبض عليهم أو احتجازهم، كما تنص المادة 14 من العهد الدولي المذكور على حق كل محتجز في أن يحام حضوريا وأن يدافع عن نفسه بشخصه أو بواسطة محام من اختيار هو أن يخطر بحقه في وجود من يدافع عنه، وأيضا "الحق في أن يتشاور مع محاميه دون أن يكون ذلك على مسمع من أحد" (المبدأ 18). وتسري هذه الحقوق منذ لحظة القبض وأثناء فترة الاحتجاز السابقة على المحاكمة وأثناء التحقيق وأثناء إجراءات الاستئناف (المبدأن 1 و7 من المبادئ الأساسية المتعلقة بدور المحامين).
كما يعبر المجتمع الدولي عناية بالغة للحرية تنص المادة 92 من القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء على ضرورة السماح للمتهم "بأن يقوم فورا بإبلاغ أسرته نبأ احتجازه وأن يعطي له كل التسهيلات المعقولة للاتصال بأسرته وأصدقائه واستقبالهم"، و"لا يجوز أن يكون احتجاز الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمة هو القاعدة العامة، ولكن من الجائز تعليق الإفراج عنهم على ضمانات لكفالة حضورهم للمحاكمة (المادة 9 من العهد العهد الدولي)، ويمكن الرجوع للمواثيق الدولية للوقوف بدقة على معايير المحاكم العادلة ودور المحامي سواء فيما يتعلق بالدفاع عن الحقوق في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناء المحاكمة أو غيرها.
ومن هذه المعطيات يمكن استخلاص مبدأين أساسيين هما الأمن والحرية اللذان يشكلان أساس كل مجتمع سليم، ومن تم وجب التوازن حتى لا يفتقد الأمن أو تفتقد الحرة.
ولا يمكن إقامة هذا التوازن إلا بنظام قضائي قوي مستقل ونزيه، وإذا كان الأمن من بين مهام السلطة التنفيذية فإن من أولى مهام المحامي الدفاع عن الحرية والحقوق، وتبقى السلطة القضائية في نهاية المطاف هي المسؤولية على تطبيق القانون بكل تجرد وبكل حياد.
والملاحظ هو الخروقات الصارخة لجميع المواثيق الدولية والقوانين الوضعية عند نظر المحاكم المغربية في قضايا لها ارتباط بالسلطة السياسية أو كانت هذه الأخيرة هي المحركة لها، ولا أريد الدخول في تفاصيل ما عرف "بالمحاكمات السياسية" ومحاكمة الكوميسير ثابت ومحاكمة الدكتور عز العرب بنسودة ومحاكمة الدكتور صنضيد ومحاكمة الصحافيين ومحاكمات الإرهاب وما إلى ذلك من محكمات إذ الكل يعرف الظروف التي مرت فيها هذه المحاكمات التي انعدمت فيها أغلب الضمانات المرتبطة بالمحاكمة العادلة. والتي همش فيها دور الدفاع وتم احتقار مهنة المحاماة كرسالة وبرهن القضاء المغربي على أنه أسير قوي تتحكم فيه متى شاءت وكيفما شاءت وأنه قضاء غير مستقل بل قضاء تابع للأوامر والتعليمات والضغوطات المختلفة.
وأعتقد أن المسؤول الأول والأخير عن عدم استقلال القضاء وعن عدم استقلال القضاة في المغرب أو في غيره من البلدان التي ينعدم فيها هذا الاستقلال هو المحامي في الدرجة الأولى، لأن المجتمع برمته أوكله الدفاع عن القيم بين المعتقدات وعن الحرية وعن استقلال القضاء قبل أن يوكله الأفراد بالدفاع عن مصالحهم بصفة انفرادية، فإن بعض المحامين برهنوا ما مرة ليس فقط على عدم قدرتهم في الدفاع عن استقلال القضاء، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك وشاركوا السلطة التنفيذية وباقي السلط في محاكمات هي عبارة عن مسرحيات هزيلة يعرف الجميع فصولها مسبقا.
والمحامون لا يمكنهم أن يدافعوا عن استقلال القضاء وعن نزاهة القضاء، إلا إذا كانوا هم أولا وأخيرا مستقلين ونزهاء، وكنت أود أن يكون موضوع هذه الدراسة هو انعكاس دور الدفاع ونزاهته على استقلال القضاء لفضح ما يقوم به ذوونا من ممارسات مشينة تدل على الخنوع بهدف الربح السريع على حساب القيم والأخلاق والرسالة المنوطة بهم.
والملاحظ كذلك هو عدم تأطير المحامين من قبل نقاباتهم للقيام بمهامهم على أحسن وجه، إذ يلاحظ غياب الأجهزة التي يقتصر دور الكثير من أفرادها على الصراعات الانتخابية الضيقة المبنية على التحالفات السياسية السياسيون والتحالفات العرقية والقبلية لتقلد مناصب كان من المفروض أن ينظر إليها بعيون مهنية قبل كل شيء.
إن عدد المحامين بالمغرب يزيد اليوم عن العشرة آلاف محامية ومحامي، ويشتغلون بدورهم عددا هائلا من المساعدات والمساعدين، ولا يمكن تجاهل المأتي ألف فرد التي تعيش مباشرة أو بطريقة غير مباشرة من هذه المهنة. ولا زالت أبواب هذه الأخيرة مفتوحة على مصراعيها ويمكن اعتبارها اليوم المنفذ الرئيسي لخريجي كليات الحقوق، وللتذكير فقط تجدر الإشارة إلى أنه وإلى عهد قريب لم تكن سوى كلية واحدة للحقوق بالمغرب وهي كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالرباط وملحقة لها بالدار البيضاء، بينما اليوم وفي ظرف ثلاثة عقود توجد ستة عشر كلية للحقوق تقريبا ناهيك عن الرباط وسلا توجد بها ثلاث كليات للحقوق، وهذا يدل على العدد الوافر من الخريجي سنويا الذين يتوافدون على مهنة المحاماة نظرا لقلة الآفاق في المجالات الأخرى، وأخشى أن تصبح مهنة المحاماة وعلى حد قول النقيب عبد الرحمن بنعمرو "مهنة من لا مهنة له" إن هي لم تكن كذلك اليوم، إن عدد الوافدين في انتفاء وفي تأطير هؤلاء المحامين، وفي فتح آفاق جديدة أمامهم وفي تحسين ظروف عملهم وفي منحهم الضمانات الكافية للقيام بمهامهم أمام قضاء نزيه ومستقل، فواقعنا الحالي يشكو من غياب رهيب للعدالة ويكرس ممارسات الهيمنة والتسلط والاستبداد ولا يؤسس لدولة القانون والمؤسسات الأمر الذي ساهم ويساهم في جعل مهنة المحاماة في المحك ومضغة للألسن.
إن العالم اليوم يحتاج مرحلة تقلبات كبرى يلعب فيها الاقتصاد والعلم التكنولوجية دوار أساسيا، ويمكن القول بأن الاكتشافات العلمية والتكنولوجية الأخيرة لها انعكاسات على عملنا، وعلى حياتنا اليومية، والعالم أصبح قرية صغيرة فضل التجارة الدولية ووسائل الاتصال الحديثة، ولا يمكن للمرء تجاهل هذه المعطيات أو غض الطرف عنها خصوصا وأن المغرب عضو في المنظمة العالمية للتجارة وله اتفاقيات للتبادل الحر سواء مع الولايات المتحدة الأمريكية أو مع الاتحاد الأوروبي، ولا يمكن للمغرب أن يكون في مستوى التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها إن كان مشهده القضائي مشهدا قاتما لا يبعث على الاطمئنان.


[1] - سورة الحجرات، الآية 13.
[2] - تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، أحمد إبراهيم حسن وطارق المجذوب، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت 2003.
[3] - يرى العالم الإنجليزي هوبير سبنسير (1820-1903) أن التوفيق بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة هون السبيل الأمثل لاستقرار النظام الاجتماعي.
[4] - "القانون في حياتنا"، للدكاترة صلاح الناهي ومحمد صبحي ونائل عبد الرحمان صالح، منشورات الجامعة الأردنية، دار الثقافة والدار العلمية الدولية للنشر- عمان، 2003، ص: 11.
[5] - عباس العبودي "تاريخ القانون" مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان 1998.
[6] - تصدر الأحكام بمصر باسم الشعب وبفرنسا باسم الجمهورية وبالمغرب باسم الملك.
[7] - لا زالت عقوبة الإعدام قائمة في المغرب ولا زالت المحاكم تقضي بها، أنظر قضية تارودانت.
[8] أنظر الأستاذ نجيب مبارك: "إشكاليات استقلال القاضي، مجلة الفنون والاقتصاد، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس، العدد السدس 1990، ص: 105.
[9] - سورة النساء، الآية 105.
[10] - سورة الأنعام، الآية 56.
[11] - سورة الرعد، الآية 41.
[12] - سورة المائدة، الآية 42.
[13] -  سورة الحجرات.
[14] - النساء.
[15] - النحل.
[16] - سورة المائدة، الآية 8.
[17] - سورة النساء، الآية 65.
[18] - حديث قدسي عن أبي ذر الغفاري عن الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل.
[19] - كتاب سنن النسائي.
[20] - موطا الإمام مالك، 1410.
[21] - محمد الإدريسي العلمي:" استقلال القضاء وفصل السلطات، مجلة القانون والاقتصادي، العدد 6، 1990.
[22] - كتاب سنن أبي داوود.
[23] - صحيح مسلم، 4444.
[24] - سنن ابن ماجة.
[25] - سنن أبي داوود.
[26] - إن القضاة ثلاثة قاضيان في النار، وقاض في الجنة، قاض عرف الحق وقضى بخلافه فهو من اهل النار وقاض قضى للناس عن جهل فهو من أهل النار ، وقاض عرف الحق فأتبعه فهو من أهل الجنة (حديث صحيح).
[27] - إدريس العلوي العبدلاي: "الوسيط في شرح قانون المسطرة المدنية"، الجزء الأول، ص: 223.
[28] - شهير أرسلان: "استقلال القضاء"، مجلة المحاكم المغربية، العدد 58، ص: 11، عن مصطفى الزرقاء، المدخل الفقهي العام، ص: 121 عن البلاذري، فتوح البلدان".
[29] - شهير أرسلان، المرجع السابق.
[30] - مونتسيكيو: "روح القوانين"، الفصل السادس، الباب التاسع.
[31] - المادة 14: الناس جميعا سواء أمام القضاء، ومن حق كل فرد لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في اية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون  ويجوز منع الصحافة والجمهور من حضور المحاكمة كلها أو بعضها لدواعي الآداب العامة أو النظام العام أو الأمن القومي في مجتمع ديمقراطي، أو لمقتضيات حرمة الحياة اخاصة لأطراف الدعوى، أو في أدنى الحدود اتي تراها المحكمة ضرورية حين يكون من شأن العلنية في بعض الظروف الاستثنائية أن تخل بمصلحة العدالة، إلا أن أي حكم في قضية جزائية أو دعوى مدنية يجب أن يصدر بصورة عهلنية، إلا إذا كان الأمر يتصل با؛داث تقتضي مصلحتهم خلاف ذلك أو كانت الدعوى تتاول خلافات بين زوجين أو تتعلق بالوصاية على أطفال.
2- من حق كل متهم بارتكاب جريمة أن يعتبر بريئا إلى أن يثبت عليه الجرم قانونا.
3- لكل متهم بجريمة أن يتمتع أثناء النظر في قضيته، وعلى قدم المساواة التامة، بالضمانات الدنيا التالية:
أ- أن يتم إعلامه سريعا وبالتفصيل، وفي لغة يفهمها، بطبيعة التهمة الموجهة إليها وأسبابها.
ب- أن يعطى من الوقت ومن التسهيلات ما يكفيه لإعداد دفاعه وللاتصال بمحام يختاره بنفسه.
ج- أن يحامكم دون تأخير لا مبرر له.
د- أن يحاكم حضوريا وأن يدافع عن نفسه بشخصه أو بواسطة محام من اختياره، وأن يخطر بحقه في وجود من يدافع عنه إذا لم يكن له من يدافع عنه، وأن تزوده المحكمة حكما، كلما كانت مصلحة العدالة تقتنضي ذلك، بمحام يدافع عنه، دون تحميله أجرا على ذلك إذا كان لا يملك الوسائل الكافية لدفع هذا الأجر.
هـ- أن يناقش شهود الإتمام، بنفسه أو من قبل غيره، وأن يحصل على الموافقة على استدعاء شهود النفي بذات الشروط المطبقة في حالة شهود الإتهام.
ذ- أن يزود مجانا بترجمان إذا كان لا يفهم أو يتكلم اللغة المستخدمة في المحكمة.
ز- ألا يكره على الشهادة ضد نفسه أو على الاعتراف بذنب.
4- في حالة الأحداث، يراعى جعل الإجراءات مناسبة لسنهم ومواتية لضرورة العمل على إعادة تأهيليهم.
5- لكل شخص أدين بجريمة حق اللجوء وفقا للقانون إلى محكمة أعدى كيفما تعيد النظر في قرار إدانته وفي العقاب الذي حكم به عليه.
6- حين يكون قد صدر على شخص ما حكم نهائي يدينه بجريمة، ثم ابطل هذا الحكم أو صدر عفو خاص عنه على أساس واقعة جديدة أو واقعة جديدة أو واقعة حديثة الاكتشاف تحمل الدليل القاطع على وقوع خطأ قضائي، يتوجب تعويض الشخص الذي أنزل به العقاب نتيجة تلك الإدانة، وفقا للقانون، ما لم يثبت أنه يتحمل كليا أو جزئيا المسؤولية عن عدم إفشاء الواقعة المجهولة في الوقت المناسب.
7- لا يجوز تعريض أحد مجددا للمحاكمة أو للعقاب على جريمة سبق أن أدين بها أو بريء منها بحكم نهائي وفقا للقانون وللإجراءات الجنائية في كل بلد.
المادة 15:
1.    لا يدان أي فرد بأي جريمة بسبب فعل أو امتناع عن فعل لم يكن وقت ارتكابه يشكل جريمة بمقتضى القاتون الوطني أو الدولي. كما لا يجوز فرض أي عقوبة تكون أشد من تلك التي كانت سارية المفعول في الوقت الذي ارتكبت فيه الجريمة، وإذا حدث، بعد ارتكاب الجريمة أن صدر قانون ينص على عقوبة أخف، وجب أن يستفيد مرتكب الجريمة من هذا التخفيف.
2.    ليس في هذه المادة من شيء يخل محاكمة ومعاقبة أي شخص على أي فعل أو امتناع عن فعل كان حيت ارتكابه يشكل جرما وفقا لمبادئ القانون العامة التي تعترف بها جماعة الأمم.
[32] - قراره رقم 44-162 وبتاريخ 15 دجنبر 1989.
[33] - شهير أرسلان، م.س.
[34] - مؤتمر ميلانو، المرجع السابق
[35] - رقم 3000 قاضي أفضى به وزير العدل مؤخرا بمناسبة انتهاء الدورة التكوينية للمحامين المتمرنين يوم 6 ماي 2005 بالرباط.
[36] - ناديت من سنين هذا الإسم ليصبح وزارة الشؤون القضائية، نظرا لما تنم عليها التسمية الحالية من غلو ومن مبالغة.
[37] - محمد السماحي، المحطات الثلاثة للقضاء المغربي، مجلة القانون والاقتصاد، العدد السادس.
[38] - ميدا 1 وميدا 2 إعانات أمريكا للمحاكم التجارية، إلخ.
[39] - رقم 3000 قاضي أفضى به وزير العدل مؤخرا بمناسبة انتهاء الدورة التكوينية للمحامين المتمرنين يومن 6 ماي 2005 بالرباط.
[40] - عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[41] - خالد خالص، الإجراءات المتعبعة في دعوى التعويض الإدارية، رسالة المحاماة، العدد 19، يوليوز 2003، ص: 31.
[42] - رواه أحمد والطبراني.
[43] - توفيق بوعشرين: "الجريدة"، ليوم 8 أبريل 2005.
[44] - إدراية الرباط ملف السيد محمد العيادي، حكم 19 يناير 1995.
[45] - سورة القلم، الآية 4.
[46] - خالد خالص: نحن معشر القضاة، مجلة رسالة المحاماة، العدد 22، ص: 89.
[47] - نشأت مهنة المحاماة منذ فجر التاريخ فقد وجد عند المصريين القدماء منذ عام 2778 قبل الميلاد جماعة من اهل العلم يسدون المشورة للمتخاصمين، وعند السومريين القدماء وفي عهد حمو رابي عام 1750 قبل الميلاد كان لكل خصم في خصومة مدنية أو جنائية حق توكيل غيره للمطالبة بحقه وبراءته، ويرجع أول استعمال لمصطلح advocatus بمعناه (من يستنجد من الناس) إلى زمن سيشرون وكان مضمونه (صديق يساعد ويعضد المتهم بحضوره محاكمته) وأصبح يستخدم هذا الاصطلاح بمعناه الحديث (المحامي) في عصر الإمبراطورية الإغريقية الأولى، كما يرجع إنشاء أول نقابة إلى عهد جوستنان لتمييز الوكلاء بنوعيهم (الوكيل المدني والوكيل بالعمولة) عن الصناع والتجار، واكن لهم حق تكوين رابطة مهنية خاصة ولم يكن المحامون يؤدون قسم المهنة، ويرجع أول تنظيم للمحاماة في البلاد الإسلامية إلى عام 1292 هجرية 1876م حيث وضع في الدولة العثمانية نظام وكلاء الدعاوى.
[48] - خالد خالص: المحامي ما فائدته؟ دفاعا عن مهنة المحاماة – دور المحامي، مجلة المحاكم المغربية، العدد 96، سبتمبر – أكتوبر 2002، ص: 85.

ليست هناك تعليقات