دور البرلمان في تقييم السياسات العمومية
دور البرلمان في تقييم السياسات العمومية
مقدمة:
اشتغل الفكر السياسي مند القديم على إشكالية تقسيم وظائف الدولة، والعلاقة ما بين الأجهزة العليا المسؤولة على تسيير دواليب هده الأخيرة . فأفلاطون و أرسطو اتفقا مند القرون ما قبل الميلادية على ضرورة توزيع وظائف الدولة على هيئات تتعاون على تحقيق المصلحة العامة بينها، لكي يكون الحاكم صالحا وفعالا.وقد دفع الاستبداد السياسي الذي عاشته أوربا إبان القرون الوسطى، إلى تحرك الفلاسفة والمفكرين و على رأسهم "جون لوك" و "مونتيسكيو"، تجاه إقرار مبدأ الفصل بين السلط كركن من الأركان الأساسية التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية.
بيد أن هدا الفصل بين السلط يختلف باختلاف المعطيات الثقافية والاجتماعية و الاقتصادية والتاريخية لكل نظام سياسي على حدة، فكل هده الاعتبارات تساهم بشكل مباشر في تحديد "شكل الحكم القائم في كل دولة وعلى ضوئه يتم تقسيم السلطات تقسيما يكفل التوازن والتعاون المشترك للسلط، أو تقسيما يرفض التحكم و الهيمنة وتداخل السلط".[1]
والمغرب كغيره من دول العالم ، عرف مبدا الفصل بين السلط ، بحيث نجد السلطة التنفيذية تتولى القيام بإعداد السياسات العمومية و تنفيذها ، في حين تتولى السلطة التشريعية التشريع والمراقبة ، إضافة إلى مسالة تقييم السياسات العمومية كأحد أهم مستجدات دستور 2011.
من هذا المنطلق ،وارتباطا بموضوع العرض ، سنقتصر على مسألة التقييم من طرف البرلمان ،وكذا مسألة المراقبة ،ولكن دون التوسع فيها ،على اعتبار أن هذه المراقبة تشكل أحد أسباب ظهور التقييم ،وبالتالي وجب علينا التمييز بين الرقابة والتقييم ، من خلال تحليل الموضوع.
لكن قبل الخوض في تحليل هذا الاختصاص الدستوري المخول للبرلمان في مجال السياسات العمومية ، لابد من شرح بعض الكلمات المفاتيح كالتالي :
البرلمان: هو كلمة مشتقة من لفظة فرنسية تعني الكلام (parlement )[2] ،ويتكون من مجموعة أفراد يطلق عليهم اسم النواب عن طريق الاقتراع العام ، من طرف الشعب ، ويتخذ عدة تسميات ، كالكورتيس بالنسبة لإسبانيا ، والكونغرس بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ، والدوما بالنسبة لروسيا ، ومجلس النواب والمستشارين بالنسبة للمغرب .
التقييم : يعتبر التقييم مفهوم دخيل،ودو استعمالات متعددة،ومفهومه دو محتوى قابل للتطور في خضم سياق مؤسساتي وإداري خاص.ويعرف التقييم على أنه أذات أو وسيلة لتحسين القدرة على تعلم قيادة إصلاحات فعالة وتحديد الأهداف القابلة للإنجاز في مجال نجاعة العمل العمومي حسب الوسائل أو النتائج.وينطبق التقييم عموما على ثلاثة أنواع من الأمور: الأعمال (البرامج ،السياسات والمشاريع...)[3].
السياسات العمومية : وللسياسات العامة مسمياتٌ عديدة مثل: "السياسات الحكومية"، و"برامج الحكومة"، و"المشروعات العامة". وسواء استعملنا مصطلح السياسة العامة أو أيًا من المصطلحات الأخرى، فكلها تشير إلى أنشطة الحكومة ومؤسسات الدولة والفاعلين الرسميين لحل مشكلات المجتمع. وقد يتباين كنه السياسات من دولة إلى أخرى بحسب تباين المجتمعات من حيث ظروفها وثقافاتها[4].
انطلاقا من شرح الكلمات المفاتيح يتضح أن البرلمان ، باعتباره ممثل للأمة يعمل على مراقبة العمل الحكومي عن طريق مجموعة من الآليات ، من أبرزها تقييم السياسات العمومية .
تاريخيا، ظهر التقييم في الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع القرن المنصرم.وكان عبارة عن نشاط ذي طابع كمي مبني على التجربة الموجهة لإخضاع القرار العمومي للعقلانية العلمية.
فإذا كان المجتمع المدني هو مؤسس الديمقراطية الأمريكية، فإنه من الطبيعي أن يكون عمل السلطات العمومية موضوع نقاش دائم، وبهذا فإن التقييم في الولايات المتحدة الأمريكية هو نتاج لممارسة طويل،هذا من الجانب النظري أما من الجانب المؤسساتي فإن التجربة الأمريكية تظل مرجعا لاغنى عنه في مجال أقلمة الممارسات التقييمية مع الحياة السياسية والإدارية، ونجد أن المكتب العام للحسابات الشهير والكونغرس الذي يعهد لإحدى الوكالات التابعة له والمستقلة عن الجهاز التنفيذي لهما مكانة مركزية في مجال التقييم.
أما بالنسبة لتجربة المملكة المتحدة ،فتعتبر التجربة البريطانية أكثر حداثة، بحيث نجد أن التقييم في هذه التجربة هو عكس التجربة الأمريكية،فالتقييم يتموقع داخل الجهاز التنفيذي وتنشطه وزارة رائدة هي وزارة المالية.
في حين نجد في فرنسا، وعلى عكس النموذج الأنجلوساكسوني،فإن الصعوبات التي تواجهها مأسسة التقييم داخل الحقل الإداري والعلمي بفرنسا، ترتبط بثقافة إدارية يطبعها التفوق التاريخي للدولة في علاقتها مع المجتمع.
وقد تبلور التقييم والمعروف باسم "تقييم السياسات العمومية" عبر مراحل متتالية من خلال مختلف الأشغال والمناظرات التي طبعت نشاط الهيئات المؤسساتية الريادية المتعاقبة، كما أن تنفيذ دورية "روكارد" حول " تجديد الخدمة العمومية '' وهي دورية تأخذ بعين الاعتبار واجب تقييم السياسات العمومية،الذي ثم تقديمه على أنه رافعة أساسية لإصلاح الدولة ويؤشر إلى انعطاف كبير في مسلسل مأسسة التقييم في فرنسا.
ويرجع التأخر النسبي الذي تعرفه التجربة الفرنسية في مجال التقييم إلى اعتبارات سياسية، إدارية ومؤسساتية تمتد جذورها في تاريخ علاقة الدولة بالمجتمع.
كما أن المبالغة في تسييس الموضوع لم تشجع لا على ظهور قطب تقييمي مستقر ولا على تمفصل ناجم عن الأعمال المنجزة في إطار عملية إتخاد القرار، سواء تعلق الأمر بالتجارب التي ثم القيام بها في حركية الجهاز التنفيذي(المندوبية العامة في التخطيط،الترتيبات المتخذة من قبل الوزارات، المجلس العلمي للتقييم، المجلس الوطني للتقييم،) أو الجهاز التشريعي (المكتب البرلماني لتقييم السياسات العمومية).[5]
إن تقييم السياسات العمومية من خلال تتبع البرامج والمخططات الحكومية،من شأنه تقوية سلطات البرلمان – بإعتباره ممثلا للأمة – في المجال المالي، وذالك بغية ترشيد الإنفاق العمومي وتقويم السياسات العمومية .
من خلال ما تقدم، يمكن طرح الإشكالية التالية :
إلى أي حد يمكن الحديث عن اختصاص البرلمان في تقييم السياسات العمومية بالمغرب ؟
هذه الإشكالية تتفرع عنها مجموعة من التساؤلات من قبيل:
ماهي أسباب تبني تقييم السياسات العمومية؟
ماهي دواعي تكريس دستور 2011 لهذا التقييم ؟
وماهي حدود هذا التقييم و متطلبات تجاوزها ؟
على أساس منطلق البحث، سيتم بلورة الإشكالية في نقطتين رئيسيتين؛ من خلال:
أسباب ظهور تقييم السياسات العمومية
تقييم السيايات العمومية في ظل دستور2011
المبحث الأول : أسباب ظهور تقييم السياسات العمومية
ساهمت محدودية الرقابة البرلمانية بأنواعها الثلاث على المال العام بظهور تقييم السياسات العامة، الذي يعد من أهم مستجدات دستور 2011(المطلب الأول)، كما للمقاربة الجديدة لتدبير الميزانية المتمثلة في الانتقال من ميزانية الوسائل إلى ميزانية النتائج دور في بروز هذا التقييم(المطلب الثاني).
المطلب الأول : محدودية الرقابة البرلمانية
تهتم أغلب الدول بمسألة إحداث المراقبة السياسية على تنفيذ الميزانية، وتختلف درجة قوة هذه المراقبة من دولة لأخرى حسب درجة التقدم الديمقراطي ودرجة الفصل بين السلط.
وتنقسم هذه المراقبة إلى ثلاثة أنواع: مراقبة سابقة ومراقبة مصاحبة أو مواكبة، ومراقبة لاحقة على تنفيذ الميزانية.
فالمراقبة الأولى أي السابقة يباشرها البرلمان من خلال مناقشته ومصادقته على مشروع قانون المالية[6]، إذ يتعين على البرلمان أن يصوت على المشروع في نهاية السنة المالية أي في31 دجنبر على أبعد تقدير.
وتجدر الإشارة أن الحكومة تتعمد تأخير مشروع قانون المالية السنوي، بالرغم من تنصيص المادة 33 من القانون التنظيمي للمالية رقم 7-98[7] على ضرورة إيداع المشروع قبل نهاية السنة المالية ب سبعين يوما،- ثلاثين يوما لكل من مجلس النواب ومجلس المستشارين للبث في المشروع خلال قراءة أولى وسبعة أيام مخصصة للجنة البرلمانية المختلطة، ثم ثلاثة أيام للمصادقة والنشر في الجريدة الرسمية- وفي المقابل جاءت هذه المادة خالية من أي تنصيص على عقوبة ما في حالة التأخر في الإيداع.
كما أن المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان ترفض إذا كان قبولها من شأنه أن يؤدي إما إلى تخفيض الموارد العمومية وإما إلى إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجود،وهذا يعد من قيود سلطة البرلمان في المجال المالي.
وفي حالة الإخلال بالتاريخ المحدد للتصويت على مشروع المالية ، فللحكومة حق اللجوء إلى مرسوم لفتح الإعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية والقيام بالمهام المنوطة بها، على أساس ما هو مقترح في الميزانية المعروضة علىالموافقة[8]، وهذا ما يفسر تجاوز الحكومة لترخيص البرلمان على مشروع قانون المالية.
أما المراقبة المواكبة فتتم عن طريق الأسئلة الشفوية والكتابية وكدا التصويت على القوانين المعدلة لقانون مالية السنة،وإحداث لجان تقصي الحقائق التي تعد أهم الوسائل لمراقبة العمل الحكومي إلى جانب الأسئلة الشفوية والكتابية.
وفيما يتعلق بالأسئلة سواء الشفوية أو الكتابية الموجهة لوزير المالية وخصوصا ذات الطابع المالي أو الجبائي تعرف نسبة متواضعة بالرغم من أهميتها، وفي المقابل يحدد أجل للحكومة لتقديم الجواب بعد ما كانت تتجاهل هذه الأسئلة أو تتأخر في الجواب الشيء الذي شجع أعضاء البرلمان على طرح هذه الأسئلة، وبالرغم من ذلك تصطدم هذه الأسئلة في أغلب الأحيان بأجوبة يتم تحريرها من قبل أطر وزارة المالية، ما يجعل وزير المالية يكتفي بقراءة تلك الأجوبة دونما تعميق النقاش فيها خصوصا أن بعض الأسئلة ينصب على مقتضيات ذات طابع تقني.[9]
أما لجان تقصي الحقائق فيقتصر دورها فقط في جمع المعلومات حول وقائع معينة، وإطلاع المجلس الذي شكلها على نتائج أعمالها الشيء الذي ينعكس على الدور الرقابي للبرلمان .
وبخصوص المراقبة اللاحقة فتتم بالتصويت على مشروع قانون التصفية (وفي بعض الحالات يتم إحداث لجان التقصي)، الذي يعتبر أهم وسيلة في يد البرلمان لمراقبة الحكومة لكون هذا القانون من شأنه أن يبين الفوارق بين التوقعات والإنجازات المحصل عليها.
إلا أن واقع الحال و التجربة العملية أثبتت تأخر الحكومة أكثر من مرة في إيداع مشروع قانون التصفية، الشيء الذي يحد من سلطة البرلمان في المجال المالي و يجعل رقابته مسألة شكلية، بالرغم من تنصيص المادة 47 من القانون التنظيمي للمالية[10]على ضرورة إيداع هذا المشروع بمكتب مجلسي البرلمان في نهاية السنة المالية الثانية الموالية لسنة تنفيذ قانون المالية على أبعد تقدير.
وترتيبا لذلك تبرز مضامين العقلنة البرلمانية في ظل التشريع الدستوري المغربي الذي جعل النظام السياسي المغربي يتسم بهيمنة الحكومة على البرلمان في مستويات مختلفة، سواء تعلق الأمر بالتشريع أو المراقبة، نظرا لضعف البرلمان وخاصة في المجال المالي نتيجة ضعف تكوين النواب وعدم اهتمامهم[11]،الشيء الذي كان وراء منح المشرع للبرلمان اختصاص غاية في الأهمية والمتعلق بتقييم السياسات العمومية.
وبالإضافة إلى محدودية الرقابة البرلمانية كسبب في التكريس الدستوري للممارسة البرلمان لتقييم السياسات العمومية، نجد المقاربة الجديدة لتدبير الميزانية المتمثلة في الانتقال من ميزانية الوسائل إلى ميزانية النتائج والتي لعبت دورا كبيرا في ظهور هذا التقييم.
المطلب الثاني: المقاربة الجديدة لتدبير الميزانية
إن عقلنة أسلوب الميزانية العامة للدولة ، يقتضي مقاربة جديدة ترتكز على التوفيق بين الأبعاد المالية و الاقتصادية والاجتماعية، وسلوك أساليب الضبط و الترشيد والشفافية في الإنفاق العام،و إرساء نظام عقلاني يقوم على تحديد الأهداف، مع اعتماد منهجية تقييم الأداء والنتائج و تحليل تقييم السياسات العمومية، كاختيار أساسي في تدبير الميزانية العامة للدولة[12].
من هذا المنطلق، يتضح بأن الانتقال من منطق ميزانية الوسائل إلى منطق ميزانية النتائج، يعتبر بمثابة السبب الثاني إلى جانب محدودية الرقابة البرلمانية، في بروز وظهور مفهوم تقييم السياسات العمومية، وذلك على اعتبار أن منطق ميزانية الوسائل يهدف بالدرجة الأولى إلى صرف الاعتمادات المالية، أي أن أهداف الميزانية تحدد بناء على الموارد المتوفرة و بالتالي ينعكس ذلك أيضا على طبيعة العمل الرقابي، و الذي ينحصر في تقييم مستوى صرف هذه الاعتمادات ، والامتثال للمساطر والإجراءات المقررة بهذا الشأن [13].
في حين نجد أن منطق ميزانية النتائج يهتم بالدرجة الأولى بنجاعة النفقات العمومية وفق الحاجيات المعلنة،أي أن أهداف الميزانية تحدد بناء على الحاجيات المعلنة،و يتم العمل على توفير الإمكانيات لتحقيق ذلك،الأمر الذي ينعكس على طبيعة العمل التقييمي، والذي يهتم بمستوى تحقيق الأهداف المقررة و انعكاساتها، و ليس على مدى صرف الإعتمادات المالية التي ما هي إلا أداة لتحقيق الأهداف و ليست غاية في حد ذاتها .[14]
إذن من خلال ما تقدم، يتبين أن المقاربة الجديدة لتدبير الميزانية والتي ترتكز على النتائج، هي من إحدى دواعي التفكير في مفهوم التقييم، كأحد الآليات الضرورية للحفاظ على المال العام و ترشيد النفقات و تقويم السياسة العمومية، وهذا منطقيلأن الأخذ بمنطق موازناتي يسعى إلى بلوغ أهداف ونتائج، يستوجب تقييما لهذه الأخيرة، أي التأكد من مدى تحققها كما تم تصورها في مرحلة الإعداد، أو بمعنى أخر فإن ميزانية الوسائل أنتجت مفهوم الرقابة، في حين أن ميزانية النتائج أنتجت مفهوم التقييم .
و هكذا فإن منطق ميزانية النتائج والرغبة في تقوية دورالبرلمان في مجال الرقابة على المال العام، و ذلك من خلال إضفاء نوع من المرونة على مفهوم العقلنة البرلمانية
و إعادة التوازن بين السلطة التنفيذية و السلطة التشريعية، كان من بينهم أهم الأسباب أو الدواعي وراء نهج سياسة إصلاحية للجانب الموازني في فرنسا سنة2001،يرتكز على ميزانية تتأسس على النتائج، على خلاف المقاربة التقليدية [15].
أما بالنسبة للمغرب فإنه اتبع النهج الفرنسي، و ذلك من خلال نهجه لهذه المقاربة الإصلاحية منذ سنة 2002، و ذلك عبر منشور للوزير الأول يحث فيه القطاعات الحكومية على تبني هذه المقاربة الجديدة، وليتم تأكيد هذه السياسة الإصلاحية ، كذلك من خلال التعديل الدستوري لسنة 2011، بحيث تم العمل على التكريس الدستوري لمفهوم تقييم السياسات العمومية، و ذلك بإسناد هذه المهمة للبرلمان كصاحب الاختصاص المباشر، و بمساعدة عدة مؤسسات أخرى .
المبحث الثاني : تقييم السياسات العمومية في ظل دستور 2011
سنتطرق في هذا المبحث إلى مستجدات دستور 2011 بخصوص دور البرلمان في تقييم السياسات العمومية (المطلب الأول)، وكذا إلى حدود ومتطلبات هذا التقييم(المطلب الثاني) .
المطلب الأول : التكريس الدستوري لدور البرلمان في تقييم السياسات العمومية
بما أن الدور الرقابي للبرلمان عرف قصور و مكامن ضعف من خلال ما كان مكرسا في دستور 1996،بحيث أن الرقابة على السياسات العمومية لوحدها غير كافية، فقد تم تدارك ذلك من خلال التعديل الدستوري الذي عرفه المغرب سنة2011، حيث وسعت الوثيقة الدستورية من مجال القانون ، بحيث أصبح البرلمان مكلفا بالتشريع في مجالات أكبر من السابق ، و هو ما يعني تعزيز إمكانية تأثيره القانون على دائرة السياسات العمومية، كما عملت على تقوية مهمته الرقابية عبر تتمين وظيفة المعارضة و تيسير إمكانيات اللجوء إلى الآليات الرقابية الأكثر قوة.
فالفصل 70 من دستور 2011، نص في فقرته الثانية على أن البرلمان ،"يصوت على القوانين و يراقب عمل الحكومة، و يقيم السياسات العمومية "[16]، فلم تعد مسؤوليته من أجل التوقيع البرلماني على النصوص ، و لا مسؤولية مناقشة السياسات العمومية لما يتم تحضيره من مشاريع و مخططات من قبل الحكومة، بل أضحت وفق مقتضيات دستور 2011 مسؤولية أساسية .
فعلى مستوى العلاقة بين المؤسسة التشريعية و السياسات العمومية ، فالبرلمان فضلا عن مهمتي التشريع و المراقبة أصبح مكلفا بمهمة تقييم السياسات العمومية [17]، بحيث أصبح يستأثر بآليات مختلفة تتجه نحو حصوله على معلومات تسلط الضوء على العمل الحكومي، و مراقبته و تقييمه، و بهذا الصدد نص الفصل 101 من دستور 2011 على أنه : "يعرض رئيس الحكومة أمام البرلمان الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة إما بمبادرة منه، أو بطلب من ثلث أعضاء النواب، أو من أغلبية أعضاء مجلس المستشارين ، كما تخصص جلسة سنوية من قبل البرلمان لمناقشة السياسات العمومية و تقييمها"[18] ، و الفصل 100 ينص في فقرته الثالثة على أنه: " تقدم الأجوبة على الأسئلة المتعلقة بالسياسة العامة من قبل رئيس الحكومة وتخصص لهذه الأسئلة جلسة واحدة كل شهر، و تقدم الأجوبة عنها أمام المجلس الذي يعنيه الأمر خلال الثلاثين يوما الموالية لإحالة الأسئلة على رئيس الحكومة." [19]
إذا كان الدستور قد دعا البرلمان لتخصيص جلسة سنوية لتقييم السياسات العمومية، فإن القانون الداخلي لمجلس النواب كما تم إقراره يوم 12 يناير2012 قد وسع من تأويل هذا الاختصاص المتعلق بالتقييم، حيث جعل من صلاحية اللجان الدائمة لمجلس النواب أن تخصص اجتماعات لتقييم السياسات العمومية للقطاعات التي تدخل ضمن اختصاصات (الفصل 48 من القانون الداخلي )، لكن المجلس الدستوري في قراره رقم 829-12 [20] ، اعتبر أن هذه الصلاحية الممنوحة للجان مخالفة للدستور، على اعتبار أن قراءة الفصل (101) يستفاد منه أن مناقشة و تقييم السياسات العمومية يتم من قبل مجلسي البرلمان في جلسات عمومية تعقد في نفس الفترة و ليس في نطاق اللجان البرلمانية الدائمة[21].
من أجل متابعة الأداء الحكومي و تقييمه، على أعضاء مجلسي البرلمان من نواب ومستشارين لأن يدلوا بأسئلتهم الشفوية ، فإذا تعلق السؤال بالسياسة العمومية للحكومة فإن رئيس الحكومة هو الذي يجيب[22] ، و تخصص بالأسبقية جلسة في كل أسبوع لأسئلة أعضاء مجلسي البرلمان و أجوبة الحكومة، أما إذا كان السؤال قطاعيا فإن الوزير المسؤول عن القطاع هو الذي يجيب .
بالإضافة إلى ما سبق فقد تم تقوية المهمة الرقابية للبرلمان عبر تيسير إمكانيات اللجوء إلى الآليات الرقابية الأكثر قوة[23] ، و هي ( اللجان النيابية لتقصي الحقائق ) ، حيث تنص المادة 67 من الدستور في الفقرة الثانية على أنه :"يجوز أن تشكل بمبادرة من الملك، أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس النواب ، أو ثلث أعضاء مجلس المستشارين ، لجان نيابية لتقصي الحقائق ، يناط بها جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معينة ، أو بتدبير المصالح أو المؤسسات و المقاولات العمومية ، و إطلاع المجلس الذي شكلها على نتائج أعمالها". [24]
فهذه اللجان يستعين بها البرلمانيون من أجل تجميع المعلومات اللازمة عن مختلف القطاعات الوزارية ، أو الوصول إلى وقائع معينة، أو بالوقوف على طرق تسيير المرافق العمومية، وعلى أساليب استعمالها للمال العام، لذلك فتجميع المعطيات حول السياسات العمومية، يشكل المرحلة الأولى في تقييم السياسات العمومية ،فحق البرلمان في تقصي الحقائق ينبع من فكره مفادها، أن على الحكومة تنوير البرلمان حول كل الوقائع التي ادعت اتخاذ التدابير من طرفها.[25]
بعدما يحصل البرلمانيون على المعلومات النهائية من جراء إفراز قانون مالية السنة بعد تنفيذه عن طريق المساءلة على نتائج التنفيذ، وحسب المادة 47 من القانون التنظيمي لقانون المالية[26]، فقد حددت توقيت تقديم قانون التصفية للبرلمان، حيث جاء في الفقرة الثانية من نفس المادة بأنه يجب أن يودع مشروع قانون التصفية بمكتب أحد مجلسي البرلمان في نهاية السنة الثانية الموالية لسنة تنفيذ قانون المالية على أبعد تقدير[27].
كما أصبح البرلمان بإمكانه اللجوء إلى مساعدة المجلس الأعلى للحسابات في مجالات مراقبة المالية العامة ولتقديم الأجوبة والاستشارات المرتبطة بوظائف التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية[28]، حيث نص دستور 2011 في الفقرة الأولى من الفصل 148 : " يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للبرلمان في المجالات المتعلقة بمراقبة المالية العامة، ويجيب عن الأسئلة والاستشارات المرتبطة بوظائف البرلمان في التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية"[29]، وعليه يكون المشرع قد كرس إلزامية المجلس الأعلى للحسابات بالتفاعل مع البرلمان في جميع المجالات المتعلقة بمراقبة المال العام، والرد على أسئلة واستشارات البرلمان، من خلال الوظيفة القضائية للمجلس الأعلى، أصبح ملزما بنشر أحكامه القضائية ، كذلك يقوم بحسب الفقرة الأخيرة من المادة 148 من الدستور التي تنص على أنه: "يقدم الرئيس الأول للمجلس عرضا عن أعمال المجلس الأعلى للحسابات أمام البرلمان، ويكون متبوعا بالمناقشة".[30]
فالمجلس الأعلى للحسابات كانت تعهد إليه المراقبة فقط في ثلاث مجالات :
- مراقبة تسيير مرافق الدولة والجماعات الترابية وتجمعاتها والهيئات العمومية.
- مراقبة توظيف الأموال العامة المسيرة من قبل الهيئات المدعمة.
- مراقبة استخدام الأموال التي تم جمعها عن طريق الإحسان العمومي.[31]
حيث كان يحظى المجلس الأعلى بالمراقبة فقط على المالية العامة، لكن ومع التعديل الدستوري لسنة 2011 ، فقد أصبح يضطلع بكل الأدوار الموكولة إليه، كدوره في تقييم السياسات العمومية ، كما عليه أن يرتقي من مجرد مؤسسة تقوم عمليا بالتفتيش وجزئيا بالتدقيق، إلى مؤسسة تضطلع بعملية تقييم البرامج والسياسات العمومية، وهنا يجب دعم عملية التدقيق في المشاريع بالتقييم، وذلك بالتنسيق والتعاون مع البرلمان[32] ، كما يجب الانتقال من تدقيق مطابقة التدبير للقوانين إلى تدقيق عمل الأجهزة ومدى مطابقتها لحسن التدبير وتقييم فعالية النتائج وتقدير آثارها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وغيرها.
دائما في إطار مسلسل تدعيم دور البرلمان في تقييم السياسات العمومية هناك آلية أخرى مساعدة تقوم بدور استشاري، يتمثل في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، حيث ينص الفصل 152 من الدستور على أنه: " للحكومة ولمجلس النواب والمستشارين أن يستشيروا المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في جميع القضايا، التي لها طابع اقتصادي واجتماعي وبيئي"[33]، وبالتالي يمكن لهذه الاستشارات أن تنير الطريق أمام البرلمان لتتبع وتقييم السياسات العمومية التي تنجزها الحكومة.
لكن بالرغم من التكريس الدستوري لهذا التقييم ، فإنه تعترضه مجموعة من الحدود ، والتي تستدعي مجموعة من الحلول والإقتراحات لجعل عملية التقييم أكثر فعالية .
المطلب الثاني : حدود ومتطلبات التقييم
إن دسترة تقييم السياسات العمومية من طرف نواب الأمة خطوة مهمة في اتجاه نجاح السياسات العمومية ، وتحقيقها للأهداف التي سطرت لها، إلا أن عملية التقييم تبقى محكومة بمجموعة من الحدود، التي تحد من فعاليته، مما يتطلب اتخاذ مجموعة من الإجراءات والحلول الكفيلة بجعل البرلمان يقوم بمهمة التقييم على أحسن وجه.
- الحدود:
لقد أدركت الحكومات على تباين أنظمتها السياسية ، واتجاهاتها الفكرية أنها بحاجة إلى دعم ومساندة شعوبها، لما تتخذه من قرارات، لذلك فتقييم السياسات العمومية في مختلف الأنظمة السياسة تؤكد أن أغلبها لا تحقق الأغراض المتوخاة منها ، ولا تنتج الآثار الموجودة منها، وهذا راجع لعدة أسباب[34] تتمثل في ما يلي :
- عادة يثار مفهوم التقييم كجزء من مقتضيات قانونية أكثر شساعة تسعى إلى جعله مشابها لتقنية مراقبة العمل الإداري، وهكذا يذوب المفهوم في النصوص القانونية المتعلقة بالمراقبة الداخلية والخارجية.
- غياب معيار تصوري للمنهج التقييمي، وبالتالي فحقل تطبيقه لا يغطي أبدا كافة الجوانب المتعلقة بسياسة عمومية، فنادرا ما تكون سياسات عمومية موضوع التقييم بكل ما للكلمة من معنى.
- تنوع هيئات المراقبة والتقييم وغياب التنسيق فيما بينها، وابرز مثال على ذلك العلاقة بين المفتشية العامة لوزارة المالية والمجلس الأعلى للحسابات، على اعتبار أن هاتين الهيئتين تبقيان الأكثر استعدادا لتشجيع ثقافة التقييم في الإدارة فهما تتداخلان في الاختصاصات في ميدان المراقبة التقليدية .
- غياب إطار قانوني واضح ومنسجم يفرض ممارسة التقييم.
- غياب ميكانيزمات للربط والتفاعل بين مختلف الوحدات الوزارية.
- هيمنة الجهاز التنفيذي في علاقته مع البرلمان، أمام غياب قدرات مستقلة في الخبرة والتحليل، فإن هذه الهيمنة للجهاز التنفيذي تصبح مضاعفة بفعل التبعية التامة للبرلمان في ميدان الوصول إلى المعلومة الضرورية قصد ممارسة اختصاصاته[35].
- إضافة إلى مجموعة من الحدود المرتبطة بالمستوى التعليمي والثقافي لمستشاري الأمة.
وأمام هذه الحدود والمعيقات التي تجعل من مهمة التقييم مهمة ليست باليسيرة ، وتجعل من دور البرلمان في مجال التقييم دور محدود للغاية، فما هي أهم الحلول والاقتراحات التي من شأنها جعل عملية تقييم السياسات العمومية أكثر فعالية؟
- الحلول :
إن معرفة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء المشكلة العمومية، يسهل معها اختيار الحل المناسب لمعالجتها كما قيل قديما ، وأمام الحدود والمعيقات السالفة الذكر لابد من تبني إستراتيجية واضحة و دقيقة للتقييم تقوم على مجموعة من الأسس كالآتي :
- تدعيم الوصول إلى المعلومة الاقتصادية وتدعيم دور البرلمان في العملية التقييمية ، على غرار ما هو معمول به في الدول المتقدمة.
- الاعتماد على التدبير الجيد للميزانية من خلال ترشيد النفقات والتحكم فيها [36] ، والمرور من منطق ميزانية الوسائل إلى ميزانية النتائج ، والمقصود بترشيد الإنفاق العام هو أن تحقق النفقات العمومية الأهداف المحددة ، و ذلك باستخدامها على أحسن وجه ممكن ، والحيلولة دون إساءة استعمالها أو تبذيرها في غير أغراض المنفعة العمومية[37].
- وضع نظام إعلامي عمومي من شأنه أن يمكن من تقييم المعطيات المتوفرة، ورصد مكامن الخلل وتجميع المعلومات المنتجة من طرف الإدارة ، وكذا المعلومات التي هي في طور الإنتاج في المركز ، والمجهودات المبذولة حاليا من أجل التوفر على ابناك معلومات غير كافية بالنظر إلى أهمية المعلومات في مجال التقييم والتي من شأنها أن تتيح لنا الاستشراف.
- ضرورة توفر كل سياسة عمومية على أهداف محددة وغير عامة ، من أجل تسهيل عملية التقييم، والتي من شأنها أن تتيح لنا الاستشراف ، هذا رغم ما تقوم به بعض الوزارات في هذا الشأن، الشيء الذي يتطلب المزيد من التشجيع .
- كما هو معروف فإن تقييم السياساتالعمومية ما يعني الوقوف على ضرورتها وفعاليتها وآثارها ، من خلال تجميع وتصنيف عدد من المعايير والمؤشرات التي يتشكل منها التقييم، وفي هذا الصدد فان نشر الممارسات التقييمية داخل الإدارة يحفز على التحلي بأكبر قدر ممكن من الدقة في تحديد الأهداف المراد تحقيقها من خلال النشاط العمومي .
-إحداث قطب مستقل عن الجهاز التنفيذي وتابع للمجلس الأعلى للحسابات ، يكون في خدمة البرلمان من أجل تحفيز الطلب على التقييم.
-إحداث هيئة برلمانية لتقييم المبادرات العمومية ، وذلك بمقتضى تشريعي .
- أن يكون هناك انسجام بين مختلف الأهداف التي رسمتها هذه السياسة .
- ضرورة الاستفادة من اللامركزية التي تعيد توزيع البنيات، و يجب أن يحتل التقييم ضمنها مكانة متصاعدة عن طريق بث ثقافة النتائج في الزمان والمكان وثقافة الأجرأة [38].
خاتمة:
ختاما يمكن القول أن تقييم السياسات العمومية كان وراء ظهوره و تبنيه في جل التشريعات عدة أسباب و المتمثلة في ضعف الرقابة البرلمانية و نهج المقاربة الجديدة لتدبير الميزانية، و ذلك من أجل ترشيد الإنفاق العمومي.
و من ثم كان لزاما وع مجموعة من الآليات للقيام بهذه المهمة و كذا إسنادها لمؤسسات ذات طبيعة رقابية لتدعيم دورها أكثر ، و خير دليل على ذلك هو جعل التقييم من اختصاص البرلمان بصفة مباشرة و بمساعدة مجموعة من المؤسسات ذات الطبيعة الرقابية.
إذن فالرغبة في حماية المال العام و كذا نهج ميزانية تنبني على الأهداف و النتائج جعلا المشرع المغربي يعمل على دسترة مفهوم تقييم السياسات العمومية في دستور 2011، و جعله من اختصاص البرلمان، إلا أن هذا الاختصاص لن يرقى إلى تحقيق غاياته، إلا إذا تم تجاوز كل الحدود و المعيقات التي من شأنها أن تقف عائقا أمامه، و العمل على تقوية دور البرلمان المغربي و ذلك من خلال خلق هيئة للتقييم لدى البرلمان و مستقلة تختص في السياسات العمومية، و كذا توضيح مختلف أدوار و مهام المتدخلين في مجال المراقبة و التقييم، و ذلك من أجل تحقيق غاية أسمى و هي جعل المال العام في خدمة المصلحة العامة.
Post a Comment