التنمية البشرية بالمغرب ان الحديث عن تنمية أي بلد، لابد من التفكير اولا وقبل كل شيء في الانسان لان هذا الاخير هو أداة وغاية التنمية، ه...
التنمية البشرية بالمغرب
ان الحديث عن تنمية أي بلد، لابد من التفكير اولا وقبل كل شيء في الانسان لان هذا الاخير هو أداة وغاية التنمية، هذه الاخيرة ماهي الا عملية تنمية وتوسيعللخيارات المتاحة أمام الإنسان باعتباره جوهر عملية التنمية ذاتها أي أنها تنمية الناس بالناس وللناس.
ونظرًا لأن الانسان هو الثروة الحقيقية لأي أمة، فإن قدرات أي أمة تكمن فيما تمتلكه من طاقات بشرية مؤهلة ومدربة وقادرة على التكيف والتعامل مع أي جديد بكفاءة وفاعلية. وما تجربة دول جنوب شرق آسيا منا ببعيد، فتلك الأمم التي قطعت على نفسها التزامات هامة تجاه تجميع رأس المال البشري وتحويله إلى طاقة وميزة تنافسية عالية تم توجيهها إلى استثمارات عالية الإنتاجية، كان مبعثه إيمانها بأن سر نهضتها ونموها يكمن في عقول أبنائها وسواعدهم. وقد كان ثمار ذلك أن حققت اقتصاديات تلك البلدان معدلات متسرعة من النمو فاقت بها أكثر البلدان تقدمًا حتى أطلق عليها النمور الآسيوية، وأصبحت مثلا يحتدا به لكل من أراد أن يلحق بركب التقدم. وحتى عندما تعرضت تلك البلدان لأزمة مالية كبيرة خلال السنوات الأخيرة استطاعت أن تسترد عافيتها بسرعة فاقت التوقعات، وهو ما أرجعه الخبراء إلى الثروة البشرية التي تمتلكها تلك البلدان، وما تتمتع به من جودة وكفاءة عالية، مما يؤكد بالملموس أن رهانات أي دولة متأخرة تستشرف المستقبل، لا يمكن أن تتحقق إلا عبر تحرير المنظومة التنموية من طابوهات الماضي وإكراهاته، وزرع بذور الأمل والتحرر من قيود التهميش والإقصاء، باعتبار الفرد داخل المجتمع أغلى رأسمال و أسمى قيمة وبالتالي يكون هو المحرك و قطب الرئيسي في كل العمليات التنموية التي تقدم عليها الدولة، التي تعتبر في الأول والأخير منطلقها الإنسان وفاعلها الإنسان وهدفها الرئيسي الإنسان.وهذا ما سعى له المغرب من خلال "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" التي أعلن عنها العاهل المغربي الملك محمد السادس بتاريخ 18 ماي 2005 والتي جاءت كمحاولة جادة وفاعلة لخلق شروط الاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي والاعتراف بالمواطن كشرط أساسي بل وضرورة حتمية لأي تقدم وتطور منشود، لا سيما وأن المغرب يوجد اليوم في منعطف حاسم ودقيق يقتضي جبهة وطنية ملتحمة لمجابهة مجمل التحديات الداخلية والخارجية. اذن فما المقصود بالتنمية البشرية؟ وما هي أهدافها؟ وما هي المعايير التي على أساسها تقاس التنمية في أي بلد؟ وكيف كان مسار التنمية بالمغرب منذ الاستقلال الا الآن؟ وماذا أضافت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية؟ ومن هم الفاعلون والشركاء فيها؟.
1ـ ما المقصود بالتنمية البشرية: التنمية البشرية هي نظرية في التنمية الاقتصاديةـ الاجتماعية، وهي تجعل الإنسان منطلقها وهدف لكل غاياتها، وتتعامل مع الأبعاد البشرية أو الاجتماعية للتنمية باعتبارها العنصر المهيمن، وتنظر للطاقات البشرية المادية باعتبارها شرط من شروط تحقيق هذه التنمية.ويعرفها "ريتشارد وارد ward:" بأنها منهج علمي وواقعي لدراسة وتوجيه نمو المجتمع من النواحي المختلفة مع التركيز على الجانب الاجتماعي وذلك بهدف إحداث الترابط بين مكونات المجتمع".
ويظهر من خلال هذا التعريف أن التنمية البشرية محورها الأساسي الإنسان، وذلك بدراسة توجيه وتوضيح فعاليته في عملية التنمية.وقد اتجه البعض في مقاربتهم لمفهوم التنمية البشرية إلى التركيز على العلاقات والروابط لرفع مستوى الفرد اجتماعيا وثقافيا وصحيا، ومن هذه المقاربات التي أكدت هذا المعنى تعريف يشير إلى أن المقصود بالتنمية البشرية هو :"تنمية العلاقات والروابط القائمة في المجتمع ورفع مستوى الخدمات التي تحقق تأمين الفرد على يومه وغده، ورفع مستواه الاجتماعي والثقافي والصحي، وزيادة قدراته على تفهم مشاكله و تعاونه مع أفراد المجتمع للوصول إلى حياة أفضل".وجاء تقرير التنمية البشرية لسنة 1990 الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (pnud) أكثر اتساعا وأكثر دقة من التعارف السابقة في تحديده لمفهوم التنمية البشرية حيث حصره في أنه:" عملية توسيع لخيرات الناس، ومن حيث المبدأ هذه الخيرات يمكن أن تكون مطلقة ويمكن أن تتغير بمرور الوقت، ولكن الخيرات الأساسية الثلاث، على جميع مستويات التنمية البشرية، هي أن يعيش الناس حياة مديدة صحية، وأن يكسبوا معرفة ويحصلوا على الموارد اللازمة لمستوى معيشة لائقة، ولكن التنمية البشرية لا تنتهي عند ذلك، فالخيارات الإضافية تتراوح من الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى التمتع بفرص الابداع والإنتاج والتمتع بالاحترام الذاتي والشخصي وبحقوق الإنسان المكفولة".
وانطلاقا من هذا التعريف يتضح أن التنمية البشرية لا تنتهي فقط عند تكوين القدرات الإنسانية في جانبها الاقتصادي فقط، بل هي تتعداه إلى مستويات تحسين مستلزمات الصحة وتطوير المعرفة والمهارات، بل تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير حيث الانتفاع بها سواء بضمان الحرية في ممارسة النشاطات الاقتصادية والسياسية والثقافية. أوفي الاستمتاع باحترام الذات وضمان حقوق الإنسان وكرامة الإنسان وتوسيع فرص الإبداع والخلق...وبهذا التعريف أضحت التنمية البشرية توجها إنسانيا للتنمية الشاملة و المستدامة والمتكاملة، غايتها الأسمى والأساسية تحقيق التنمية الاقتصادية المرتبطة بالرفع من جودة حياة البشر.
2ـ ما هي المعايير التي على أساسها تقاس التنمية البشرية: بالرغم من الثراء الذي يمتاز به مفهوم التنمية البشرية كما جاء في تقرير 1990، إلا أن محاولات تأليف معيار للتنمية البشرية قد اتسم بالضعف والقصور، حيث أسفر عن معيار يجمع بين عدة مؤشرات من بينها" مؤشر التنمية البشرية الذي يحسب على أساس مستويات :ـ مؤشر معدل الحياة؛ـ مؤشر الصحة؛ـ مؤشر التعليم؛ـ مؤشر معدل الدخل؛ـ مؤشر الفقر؛ ـ مؤشر" الهشاشة" و "التهميش".الا ان من أبرز الانتقادات التي يمكن مؤاخذتها على هذه المؤشرات هي اختزالها الشديد الذي يفتقد معه الوصول إلى تشخيص وفهم أمثل لمستويات الرفاهية الإنسانية كما هي منصوص عليها في التقرير. وذلك نظرا لإغفاله للعديد من المؤشرات المهمة والتي تدخل في صلب تحقيق الرفاهية الإنسانية، كمؤشر الأمن والاستقرار السياسي، ومؤشر البيئة، بالإضافة إلى مؤشر الحرية... فضلا على أن هذه المعايير التي يعتمد عليها تقرير التنمية البشرية، لا تلتمس الدقة في التقدير. فمثلا مؤشر توقع الحياة عند الميلاد ـ الذي يقصد به متوسط عمر الإنسان بالسنوات ـ قد لا يعبر بالضرورة عن مدى سلامة الصحة البدنية والنفسية للأفراد، أما معدل أمية البالغين فهو لا يعكس بالضرورة مستوى التعليم ومدى مساهمته في اكتساب الأفراد للمعرفة وتنمية قدراتهم واختياراتهم، وكذلك ودواليك ما يتعلق بالدخل الفردي فهو أيضا بعيد عن الدقة المطلوبة لعدم أخذه في الحسبان معايير سوء العدل في توزيع الدخل.
3ـ التنمية البشرية في المغرب ما بين 1956/2004:
اعتبرت قضية التنمية التحدي الأكبر والأساسي الذي واجه المغرب في سباقه نحو التقدم والتحديث،
لذلك حاول منذ السنوات الأولى من الاستقلال أن يرسم لنفسه نهجا تنمويا خاصا قائم على معطيات ثابتة جعلته كما يقول محمد الجابري "تجربة تنموية منفتحة بمعنيين: منفتحة بنيويا باعتمادها كاختيار استراتيجي، ومنفتحة إعلاميا بمعنى أنها تعتمد الإحصاء في مخططاتها لا تضرب الحصار على المعلومات بل تترك الباب مفتوحا، بهذه الدرجة أو تلك لمن يروم الحصول عليها".
وقد اتسمت معظم المخططات التنموية التي تعاقبت على المغرب بتبنيها نفس الإستراتيجية العامة مع بعض التحولات التي فرضتها ظروف وتقلبات المرحلة، ولتفسير ذلك يجب معالجة إستراتيجية المغرب في التنمية في مرحلتين، المرحلة الأولى وهي التي تشكل الفترة الانتقالية من مخلفات الاستعمار وتمتد من 1956إلى 1960، والمرحلة الثانية التي من سماتها الأساسية بناء صرح الدولة الحديثة القائمة على مؤسسات مستقلة وقوية وهي التي تتجلي في الفترة الممتدة ما بعد 1960الى 2004.
* استراتيجية الدولة المغربية في التنمية مابين 1956 /1960:
ان من بين أهم الشعارات التي كانت بند هذه المرحلة هي شعارات الانتقال من الجهاد الأصغر الذي كان يهدف إلى تحقيق الاستقلال عن القوى الاستعمارية، إلى الجهاد الأكبر الذي يعني تدشين "مرحلة الإصلاحات الكبرى والبحث عن الحلول للمشاكل المترتبة عن التغلغل الاستعماري وإيجاد علاج للآفات الاجتماعية والاقتصادية".وهكذا كانت إستراتيجية التنمية لعمل الحكومات المغربية خلال السنوات الأولى من الاستقلال تتمحور بالدرجة الأولى في "استعادة السيادة الكاملة على الخيرات الوطنية التي بنا عليها الاستعمار نظامه "التعميري" وبالتالي امتلاك النظام لكل مقومات الدولة ومن ثم توجيهها توجها وطنيا، حيث عمل المغرب على استرجاع كافة أراضيه التي كانت تحت يد المعمرين، ثم إقرار السيادة الكاملة على كافة المرافق الحيوية للدولة وتجهيزاتها الأساسية (مصالح النقل، السكك الحديدية، شركات توزيع الماء و الكهرباء..)، ثم تأميم بنك المغرب وإصدار عملة وطنية مغربية منفصلة عن الفرنك الفرنسي، وإقامة نظام جمركي جديد(1957) حل محل النظام الاستعماري. وفي ذات السنوات تم إنجاز بعض المشاريع الاقتصادية المهمة كإنشاء معمل لتكرير البترول وآخر لتركيب السيارات كما دشنت عملية "الحرث الجماعي " والبدء في عمليات التشجير وكذا في توزيع الأراضي على الفلاحين الصغار، وإصلاح الفلاحة ولاهتمام بالعالم القروي وبوضعية العمال الزراعيين وتحسين ظروف عيشهم ووسائل إنتاجهم، هذا وقد كانت الإنجازات التي عرفها ميدان التعليم جد مهمة حيث كان الاهتمام بإصلاح التعليم وتعميمه ومغربته وتوحيده وتعريبه على رأس القضايا والرهانات التي تحملتها الحكومات في تلك الفترة من الزمن حيث ارتفع عدد الأطفال المقبلين في المدارس من 210.018 تلميذ سنة 1954 إلى530.000 تلميذ سنة 1958 بزيادة تقدر بـ 21%، كما كان الاهتمام كبيرا بالعلوم الإسلامية و الآداب و العلوم الحديثة" حيث أرسل الطلبة حملة شهادة الثانوية إلى سوريا ومصر، وهم الذين سيكونون النخبة الجامعية بالمغرب عند مجيئهم".ورغم بعض السلبيات التي خلفتها إستراتيجية التنمية التي اعتمدتها الدولة خلال هذه الفترة، فإن خصوصية المرحلة وطبيعة الرهانات التي كانت تلازمها يشفع لها في ذلك.
* استراتيجية الدولة المغربية في التنمية ما بين 1960 الى 2004:
من أجل النهوض بالإصلاحات التي دشنها المغرب خلال المرحلة الانتقالية من استقلاله وضعت الحكومة المغربية آن ذاك مخططات تنموية أهمها المخطط الخماسي (1960ـ 1964) الذي كان من رهاناته الأساسية تحقيق الاستقلال الاقتصادي من التبعية الخارجية، وتحسين جودة الخدمات الاجتماعية، وإرساء قواعد لتصنيع الفلاحي. حيث كان الهم الأساسي لواضعي هذا المخطط يتجلى بالأساس في "إعادة هيكلة النظام الاقتصادي المغربي ككل بصورة تجعله يتجه في اتجاه غير اتجاه نظام التعمير الاستعماري حتى يمكن الدخول في مسلسل القضاء على البطالة..." وتوسيع فرص الشغل لتشمل كافة الجماهير العاطلة.إلا أن إقالة الحكومة الوطنية التي كانت آنذاك برئاسة "د.عبد الله إبراهيم" سيؤدي إلى إعادة النظر في إستراتيجية المخطط من قبل ما يسميهم محمد عابد الجابري "بدعاة الليبرالية الواقعية" الذين دعوا إلى "ضرورة إشراك رجال الأعمال في تدبير أمور الدولة وتسيير هياكلها و تنميتها". وهكذا طرح مشروع تحديثي جديد كبديل للمخطط الخماسي ركز فيه على ضرورة البطالة وإنعاش الشغل كأساس لأي مشروع تنموي، فطرح "برنامج الإنعاش الوطني" لمحاربة البطالة في البادية تحت وصاية وزارة الداخلية (سنة 1961) حيث تم الاعتماد فيه على تمويل ثلاثي المصدر، جزء يأتي من إعانة القمح الأمريكي وجزء من ميزانية الدولة وآخر من ميزانية الجماعات المحلية.وكنتيجة للاستحقاقات النسبية التي أدى إليها هذا مشروع "الإنعاش الوطني" وتكريسا للسياسة الليبرالية التي نهجتها الدولة كاختيار في مجال التدبير طرح المخطط الثلاثي (1965 ـ 1968) الذي سيركز على "الفلاحة والصادرات والسياحة"، ونادى بتقليص تدخل الدولة في المجالات الاقتصادية الأخرى، وإعطاء القطاع الخاص الدور المهم والمحرك الاقتصادي ...، وكان يشجع على انتهاج سياسة ليبرالية في المجال الاقتصادي "فوجهت الدولة استثماراتها إلى إنشاء السدود وتوجيه الفلاحة نحو التصدير وإخضاعها لمتطلباته، وتطوير آليات الاستغلال في قطاع الفلاحة بواسطة مزارع مجهزة ومتطورة "وهكذا تطورت الفلاحة المسقية وأمكن ضمان التزويد المنتظم للمدن بالماء الصالح للشرب، غير أنه لم يكن بإمكان المناطق النائية والساكنة المعوزة الاستفادة بشكل تلقائي من انعكاسات السدود والطرق والشبكة الكهربائية ". أما في مجال السياحة فقد اتجه المخطط إلى إنشاء تجهيزات مهمة من بناء سلسلة من الفنادق وتحسين جودة الخدمات في أكثر المناطق جلبا للسياح... ثم جاء المخطط الخماسي(1968ـ 1972) كامتداد للاختيارات والأولويات و الشعارات التي ميزت المخطط السابق، مع إعطاء بعض الأولوية للقطاع الصناعي، بتشجيع الفلاحة التصديرية وتحديث وسائل الإنتاج، وفكانت النتائج الاجتماعية للإستراتيجية التنموية التي نهجتها الدولة خلال المخططين الأخيرين جد هشة ومخيبة لكافة تطلعات ومتطلبات المواطنين، ثم بعده جاء المخطط الخماسي الثالث (1973 ـ 1977) بسياسة جديدة ذات طابع نقدي للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها مرحلة الستينات، ولذلك اعتبر هذا المخطط بمثابة سياسة تصحيحية للإستراتيجيات الدولة السابقة في معالجة الأوضاع العامة للبلاد، حيث أعطى بعض الأولوية للقطاع الصناعي وقرر بعض الإصلاحات في الميدان المالي والضريبي كما أقر بعض الإصلاحات الاجتماعية". وعمل على تشجيع عمليات النمو في الأقاليم المهمشة بانتهاج سياسة اللامركزية، ومغربة الاقتصاد الوطني بالتشجيع على شراء أسهم الأجانب. بيد أن الاضطرابات التي عرفها انخفاض الطلب على الفوسفاط والزيادة في أسعار البترول وكذا النفقات التي تحملها المغرب ابتداء من 1975 بما عرف بتعمير المناطق الصحراوية المسترجعة. مما أدى إلى انتكاسة طموحات هذا الأخير حيث غدت المشاريع الاقتصادية والاجتماعية تعاني من جمود جراء مشاريع لم تنفذ أو شرع في تنفيذها وتعذر إتمامها. فانتظر المغرب سنة 1978 حيث سيتم الإعلان عن المخطط الثلاثي ( 1978 ـ 1980) "الذي حاول أن يلطف من الأزمة الاقتصادية الناتجة عن ارتفاع أسعار البترول" فأفرز مكانة مهمة للقطاع الخاص في عملية التنمية، وعمل على الاعتناء بالمقاولات الصغرى والمتوسطة وأوصى بالتقليل من نفقات الدولة جراء انعكاس سنوات الجفاف التي عرفها المغرب في تلك الفترة.
وتميزت سنة 1983 باقتراح مخطط خماسي جديد (1983 ـ 1987) الذي يروم إلى لملمة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، عن طريق دعم المنتوجات الغذائية والصناعية والطاقة، وركز على التقليص من الفوارق الطبقية بإحداث مناصب للشغل ...لكن إقرار سياسة "التقويم الهيكلي" في نفس الفترة سوف يؤدي إلى تبطئ عملية النمو وإلى تدهور التنمية الاجتماعية جراء الحد من الموارد والتقليل من طلب الحبوب وارتفاع الأسعار الداخلية نتيجة تدهور العملة الوطنية بالنسبة للعملة الأجنبية وانعكس هذا على الدولة إذ كلفها ذلك جهدا مضاعفا لتحقيق بعض الأهداف الموسمية في المخطط.
ولن يتم التخفيف من هذه السياسة وانعكاساتها إلا مع برنامج الأولويات الاجتماعية (باج1) سنة1993 و الذي هدف بالأساس إلى تطبيق إستراتيجية للتنمية الاجتماعية، تشمل العديد من الأقاليم الأكثر تهميشا في المملكة. والتي تتألف من ثلاثة مشاريع أساسية: التعليم الأساسي، الصحة الأساسية والإنعاش الوطني و التنسيق ومتابعة البرامج الاجتماعية. فكانت أهم نتائجه تحسن لا بأس به في مستوى المكوث في المدرسة خاصة بالنسبة للفتاة والرفع من مستوى التمدرس، كما استفاد الأطفال المتمدرسون من توزيع الكتب والأدوات المدرسية ومن خدمة المطاعم المدرسية. كما كانت نتائجه على مستوى مجال الصحة مشابهة تقريبا للمعادلات الوطنية المتوسطة، في حين كانت نتائجه مهمة على مستوى معالجته لمعضلة الفقر حيث عمل على خلق فرص واسعة للشغل وفك العزلة عن المناطق القروية بمدها بالماء الصالح للشرب، وفي ذات الإطار تم إنجاز مجموعة من المشاريع من طرف "الإنعاش الوطني" والتي مكنت من خلق كتلة أجرية مهمة في الوسط القروي من دعم تدخلات كل من الصحة والتربية.
ومن أجل تكريس مسار التنمية المستدامة التي دشنها المغرب مع بداية العقد الأخير من القرن المنصرم، تميز مشروع مخطط التنمية لـ (2000 ـ 2004) والذي هدف إلى تعديل مسار التطور وآليات التنمية الاقتصاديةـ الاجتماعية ووضع المغرب على السكة الصحيحة للتنمية، التي يستطيع من خلالها استغلال كل مكوناته وطاقته المادية والبشرية استغلالا عقلانيا. وتتلخص أهم البرامج المقترحة في هذا الإطار في: الاهتمام بالعالم القروي وتقليص الهوة بين البادية والمدينة وتأهيل الإنتاج والبنى التحتية الصناعية، واجتماعيا هدف إلى تقليص الفوارق الاجتماعية والاهتمام بالفئات المهمشة والفقيرة وكذا الاهتمام بالتعليم ومحو الأمية ومحاربة السكن الغير اللائق...كما هدف إلى وضع آليات تسهر على تخليق الحياة العامة وإصلاح الإدارة.وهكذا بعد هذه القراءة المقتضبة نخلص مما سبق إلى استنتاج واحد ووحيد، هو أن هذه الإستراتيجية التنموية التي نهجها المغرب خلال النصف قرن الماضي (بإخفاقاتها ونجاحاتها) بقيت عاجزة أو لنقل متباينة مع طموحات ومتطلبات ومطالب جماهيرنا وعامتنا، مما حتم من ضرورة الإسراع بإعادة النظر في هذه الإستراتيجية ومحاولة البحث على سبل لسياسة تنموية جديدة ومتطورة تمليها إرهاصات ومتطلبات المرحلة سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الخارجي، فجاء الخطاب الملكي لـ 18 ماي 2005 خير استجابة لذلك من خلال إعلانه عن "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" كتصور بديل و حديث لمسألة التنمية البشرية في المغرب.
4 ـ المبادرة الوطنية للتنمية البشرية: تعد المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مشروع ملكي تنموي بامتياز، حيث تم إعطاء انطلاقته رسميا في 18 ماي 2005 ، والذي يهدف الى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعب المغربي. وهي تقوم على ثلاث محاور اساسية :ـ التصدي للعجز الاجتماعي بالاحياء الحضرية الفقيرة والجماعات القروية الاشد خصاصا؛ـ تشجيع الانشطة المتيحة للدخل القار والمدرة لفرص الشغل ؛ ـ العمل على الاستجابة للحاجيات الضرورية للاشخاص في وضعية صعبة.
5ـ الفاعلون في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية : على المستوى المركزي : هناك جهاز الحكامة على المستوى المركزي، بالاضافة الى لجنة استراتيجية للتنمية البشرية مشتركة بين الوزارات برئاسة الوزير الاول، وهي مكونة من أعضاء الحكومة " وزارة الداخلية، المالية، والتنمية الاجتماعية والتنمية القروية"، بمعية كل من المؤسسات والهيئات العمومية.ويكون من اختصاصهم : ـ تحديد الاطار المالي ؛ـ رصد موارد تتناسب والتجمع الاقليمي للمبادرات المحلية للتنمية البشرية والتي تتطابق مع التوجهات العامة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية؛ـ التواصل المؤسساتي ؛ـ انعاش التعاون الدولي ؛ـ التتبع العام لمؤشرات التنمية البشرية والتقييم العام للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
على المستوى الجهوي : هناك جهاز الحكامة على المستوى الجهوي، بالاضافة الى اللجنة الجهوية برئاسة والي الجهة، وهي تضم : كل من عمال الاقاليم والعمالات، رئيس المجلس الجهوي، رؤساء المجالس العمالات والاقاليم، بمعية المؤسسات العمومية المعنية وكذا ممثلو النسيج الجمعوي الجهوي وقطاع القروض الصغرى والجامعة وأخيرا القطاع الخاص .ويكون من اختصاصهم :ـ خلق تناسق شامل بين المبادرات الاقليمية للتنمية البشرية ؛ـ العمل على خلق انسجام بين برامج الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية وعمليات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
على المستوى الاقليمي : هناك جهاز الحكامة على المستوى الاقليمي، واللجنة الاقليمية للتنمية البشرية يرأسها العامل، بالاضافة الى المنتخبون ممثلو الجماعات المحلية، ادارة المصالح اللاممركزة المعنية بما في ذلك الصحة والتربية الوطنية، بمعية المجتمع المدني والقطاع الخاص . ويكون من اختصاصهم:ـ المصادقة على المبادرات المحلية للتنمية البشرية ؛ـ اعداد اتفاقيات تمويل المبادرات المحلية للتنمية البشرية بتنسيق مع مختلف الشركاء المحليين المنخرطين في العملية؛ـ فتح الاعتمادات المرصودة للمبادرات المحلية للتنمية البشرية المصادق عليها حسب التقدم في انجاز المشاريع ؛ـ الاشراف على تنفيذ البرامج والتتبع والمراقبة؛
على المستوى المحلي : نجد جهاز الحكامة على المستوى المحلي، واللجنة المحلية للتنمية البشرية والتي تتكون من ممثلي ومنتخبي الجماعات او المقاطعات الحضرية، بالاضافة الى رئيس اللجنة المكلفة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذا النسيج الجمعوي، والمصالح التقنية اللاممركزة.ويكون من اختصاصهم :ـ اعداد المبادرة المحلية للتنمية البشرية، مع امكانية الاستفادة من الدعم والمساعدة التقنية الخارجية ؛ـ التنفيذ العملي للمشاريع والمبادرات المعتمدة على المستوى المحلي ؛ـ مراجعة مخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الجماعية قصد تحقيق الانسجام بين البرامج القطاعية والتناسق مع المبادرة المحلية للتنمية البشرية.الشركاء :الشراكة ضرورية من أجل نجاح المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وأهم الشركاء في مشروع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية نجد : البنك الدولي، تحدي الالفية للتعاون، برنامج الامم المتحدة للتعاون، الوكالة اليابانية الدولية للتعاون، التعاونية الاسبانية، المخزونات السعودية للتعاون، الحكومة الصينية، الاتحاد الاوروبي، المخزونات العربية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية .
6ـ تتقييم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية : لقد تراجع المغرب في ترتيب برنامج الامم المتحدة للتنمية البشرية بثلاث نقط اذ انتقل الى الرتبة 126 من بين 177دولة، وقد صنف تقرير الامم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2007 ـ 2008 المغرب ضمن البلدان ذات التنمية البشرية المتوسطة لكن بمؤشر أقل من المتوسط العالمي، وقد تم تصنيف الدول وفقا لأربع مؤشرات مركبة تضم متوسط العمر، مستوى التعليم، مستوى الدخل الفردي، وكيفية توزيع الثروة.ورغم ارتفاع معدل الحياة في المغرب ليتجاوز 70 سنة فان هذا المعدل يظل اقل من معدلات الحياة المحققة في الدول المتقدمة، وكذا المؤشرات المتعلقة بصحة الطفل والام حيث لازالت مبعث قلق ومصدر ذي انعكاسات سلبية على التنمية البشرية بالبلاد، حيث يرى البعض ان البلاد لم تصل بعد الى التعامل الامثل مع الامراض المنتشرة في البلدان الفقيرة، اضافة الى ذلك يظل ولوج الخدمات الطبية غير كاف وغير متكافئ. كما ان حالة الوحدات التطبيبية والمستشفيات ظلت تتأرجح بين الاستقرار والتراجع.
وعلى الرغم من مجهودات الدولة الموجهة الى مكافحة آفة الفقر والتقليص من حدته حيث استطاعت ان تقلل من نسبته من 50 بالمائة خلال سنة 1960 الى 14,2 بالمائة حاليا، الا انه نظرا للنمو الديمغرافي فان العدد المطلق للفقراء استقر في خمسة ملايين أي في معدل المتوسط، من بينهم ثلاثة أرباع من يتواجدون بالعالم القروي.
ليست هناك تعليقات