المبادرة الوطنية للتنمية البشرية - والتنمية المحلية في المغرب سليم اللويزي : الحوار المتمدن يكتسي موضوع المبادرة الوطنية للتنمية ...
المبادرة الوطنية للتنمية البشرية - والتنمية المحلية في المغرب
سليم اللويزي :الحوار المتمدن
يكتسي
موضوع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية و التنمية المحلية أهمية قصوى لما يعيشه
المغرب من تحولات اقتصادية و اجتماعية و سياسية، و ما يعانيه من إكراهات داخلية و
خارجية، تجعل من إشكالية التنمية المحلية و التنمية البشرية من الأولويات الضرورية
التي يجب البحث فيها و عنها، و إيجاد حلول لها.
إن الوقوف على التفاعل القائم بين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية
و التنمية المحلية، من شأنه أن يحدد معالم العلاقة القائمة بين المفهومين، و يفتح بوابة فهم و استيعاب لواقع التنمية البشرية بالمغرب، و تأثير المبادرة على التنمية المحلية، رغم مخاطر الخوض في هذا الموضوع العديدة نظرا لجدته و التطورات الطارئة التي من شأنها أن تغير معالم هذا البحث في أي حين. و يتجلى هذا التفاعل من خلال مجموعة من الميكانيزمات، سواء تعلق الأمر بالمقاربات المعتمدة، أو ما تعلق بالعنصر البشري و الإمكانات المادية و سبل عقلنتها عبر الاعتماد على آليات حديثة أهمها الحكامة الجيدة.
و تتجلى أهمية الموضوع في السعي إلى تحقيق الأهداف التالية:
- الوقوف على العلاقة بين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية و التنمية المحلية،
- إبراز أهم خصائص المبادرة التي تساعدها على تحقيق أهدافها،
- إظهار الدور الذي تلعبه آليات المبادرة في تحقيق التنمية المحلية،
- التعرف على آليات المبادرة خصوصا الحكامة الجيدة،
- الوقوف على مظاهر تأثير المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على التنمية المحلية من خلال مؤشرات الانجاز،
- دراسة العلاقة من خلال المقاربات الحديثة كالمقاربة التشاركية
و المندمجة،
- الوقوف على أهم إكراهات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية،
- محاولة إعطاء تصور عام و حلول من أجل تنمية محلية قائمة على أساس التنمية البشرية على جميع المستويات.
إن اختيار الموضوع لم يأت اعتباطيا أو عشوائيا، و إنما جاء بعد تفكير ملي في قيمته العلمية و طرق التطرق إليه نظرا لأهميته البالغة، و التأكد من توفر شروط البحث العلمي فيه، خصوصا أن ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لازال مفتوحا و في بدايته.
تتمثل الدوافع الذاتية في كون دراسة هذا الموضوع له علاقة وطيدة
و صلة متينة مع تخصصنا الدراسي" تدبير الإدارة المحلية"، كما أن سؤال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية و علاقتها بالتنمية المحلية كان و لازال يطرح بالنسبة للباحث نوعا من القلق المعرفي، الشيء الذي يدفعنا إلى الخوض في هذا الموضوع.
إن تحليل العلاقة القائمة بين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية و التنمية المحلية يجعلنا مضطرين إلى تحديد المفاهيم الأساسية لهذه الثنائية، و المتمثلة أساسا في مفهومين أساسيين: المبادرة الوطنية للتنمية البشرية و التنمية المحلية، على اعتبار أن كلا المفهومين يضم مفاهيم فرعية. و عموما يمكن القول أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هي مرجعية إستراتيجية تعنى بالتنمية الاجتماعية، و تهتم بتنمية المجال، وتركز على الفاعل الاجتماعي (الموارد البشرية) عبر الزيادة في قدرات البشر على الاختيار وتمكينهم من ممارسة هذه الخيارات، وتفجير طاقاتهم الإبداعية وتمكينهم من المشاركة في أمور حياتهم.
أما بالنسبة للتنمية المحلية فهي عملية توزيع و إغناء الأنشطة الاقتصادية
و الاجتماعية و الثقافية على مجال ترابي معين، من خلال تعبئة و تنسيق مواردها و طاقاتها قصد تحسين ظروف عيش السكان القاطنين في ذلك الفضاء بكيفية مستدامة.
و يحاول هذا الموضوع من خلال الإحاطة بالجوانب المحيطة بمبادئ المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تجاوز مرحلة الوصف، و الخوض في مرحلة تتسم بالتحليل العلائقي لاستنباط أوجه التأثير الذي يمكن أن تمارسه المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على التنمية المحلية من خلال الإجابة عن الإشكالية المحورية المتمثلة في: إلى أي حد ساهمت و تساهم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في تحقيق التنمية المحلية؟ تتفرع عنها إشكاليتان فرعيتان:
- إلى أي مدى تعتبر المبادرة الوطنية للتنمية البشرية محددا من المحددات الجوهرية للتنمية المحلية؟
- هل استطاعت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من خلال تطبيقاتها
و إنجازاتها، الدفع و خلخلة مؤشرات التنمية المحلية على صعيد إقليم آسفي؟
و انطلاقا من هاته الإشكاليات نجدنا أمام مجموعة من الأسئلة التي تستوجب البحث عن إجابات شافية لها:
- هل تحقيق التنمية المحلية رهين بنجاح برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، أم أن هناك عوامل أخرى تساهم في تحقيق هذه التنمية؟
- هل المبادرة كفيلة لوحدها بإنجاح طموح التنمية المحلية؟
- ما هي الميكانيزمات المعتمدة من أجل تحقيق هذه التنمية؟
- هل يمكن الحديث عن مبادرة وطنية أم أن الأمر لا يتعدى كونه مؤشرا للتنمية البشرية؟
- ما هي العبر المستخلصة من خلال المنجزات الأولية لبرامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على المستوى المحلي ( آسفي نموذجا)؟
- ما هي أهم الصعوبات التي واجهت تطبيق هذا الورش، و ما هي أهم الحلول التي يمكن اعتمادها من أجل تجاوز هذه الإكراهات؟
إن اختيارنا لعدة مناهج البحث العلمي جاء لضرورة ملحة من أجل الإجابة على التساؤلات السابقة، و لقياس نسبة التأثير و التغيير الذي سيطرأ على مؤشرات التنمية المحلية:
و يعتبر المنهج الوصفي المسحي أول هذه المناهج، على اعتبار أن الدراسة تستدعي منا تجميع المعلومات الخاصة بالموضوع، و وصفا لبرامج المبادرة الوطنية من جهة، و وصف و تحليل و تفسير البيانات الخاصة بموضوع البحث ألا و هي البيانات الخاصة بالمبادرة على المستوى المحلي، الشيء الذي يجعلنا مضطرين إلى اعتماد منهج دراسة الحالة، على اعتبار أن الموضوع يستدعي البحث المتعمق في العوامل المتعددة التي تسهم في تشكيل الوحدة الاجتماعية.
إن الخروج بخلاصات و قياس مدى التفاعل القائم داخل البنية، يستلزم منا الاعتماد على المنهج النسقي باعتباره منهجا مركبا، يتكون من المنهج الوظيفي
و المنهج البنيوي. فالمنهج النسقي يقوم على المزج بين هاذين المنهجين، الوظيفي و البنيوي، إذ أنه يصعب في مجال العلوم الاجتماعية الفصل بين البنية و الوظيفة و النسق. فالبنيوية تستدعي الوظيفة، و هذه الأخيرة لا تدرك إلا من خلال بنية تشتغل فيها و عليها، على أساس أن البنيوية/الوظيفية تسعى إلى تحليل الواقع الاجتماعي أو الفعل الاجتماعي. فالنسق إذن ما هو إلا تلك الوظائف و التفاعلات التي تحدث داخل بنية ما من خلال مدخلات "In put" و مخرجات "out put" لتعطينا المعادلة التالية: "البنية + الوظيفة = نسق أو منظومة، فالنسق ما هو إلا تلك الوظائف و التفاعلات التي تحدث داخل بنية ما".
و الإجابة عن الإشكالية المحورية تستدعي منا أن نعتمد على التصميم التالي:
الفصل الأول: المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كآلية للتنمية المحلية.
الفصل الثاني: مساهمة المبادرة الوطنية للتنمية في تحقيق التنمية المحلية من خلال مؤشرات الإنجاز.
لقد جاءت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كعملية تصحيحية و إستراتيجية وطنية فرضتها ظروف دولية و وطنية، و انبثقت عن إرادة ملكية من خلالها يمكن القضاء على العجز الاجتماعي. فقد أعطى صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله انطلاقة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في 18 ماي من سنة 2005 محددا أهدافها و مراميها، و مجسدا روحها و فلسفتها و آليات تنفيذها،
و أجرأتها في خطابه السامي في 20 غشت 2005. فقد اعتبر ترتيب المغرب ضمن المراكز المتأخرة في ترتيب برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية لسنة 2005 بتموقعه في المرتبة 124 من بين 177 دولة و تصنيفه من ضمن الدول ذات تنمية بشرية متوسطة، بالمؤشر الرئيسي للأزمة الاجتماعية التي يعيشها المغرب اعتبارا لعدة مقاييس منها متوسط العمر، مستوى التعليم، مستوى الدخل الفردي و كذا كيفية توزيع الثروة.
و قد ارتبطت المبادرة بسياق دولي يرتبط أساسا بالتزام المغرب بتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية من أجل القضاء براثين الفقر و الجوع من جهة، و من جهة ثانية التزامه بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان و التعهد باحترام بنود إعلان 1948 لحقوق الإنسان، و هذا ما سعت إليه فعلا المبادرة من خلال اعتمادها على صيانة و ضمان حقوق الإنسان كأولى الأوليات.
أما بالنسبة للسياق الداخلي، فقد اعتبر تقرير الخمسينية بمثابة تنبيه إلى ما ستؤول إليه الأوضاع الاجتماعية خصوصا في السنوات المقبلة إذا لم تتخذ الإجراءات اللازمة.
و تتجلى الأسباب الداخلية في: أولا- تدهور الأوضاع الاجتماعية
إذ تتجلى مظاهر العجز الاجتماعي بالمغرب في مجموعة من المؤشرات التي تتعلق بالأصعدة التالية:
• هاجس المعرفة و المستوى المتدني للتعليم بالمغرب إذ تبلغ نسبة الأمية 42,7% يستحوذ منها المجال القروي القدر الأكبر بنسبة 60%،
• ارتفاع نسبة الفقر بالمغرب إذ بلغت نسبة السكان الذين يعيشون تحت عتبة الفقر في المغرب، أي الذين لا يتعدى دخلهم دولاران في اليوم(تقريبا 16 درهما) 14.3% ،
• تدني مستوى الصحة بالمغرب، خصوصا و أن نسبة ميزانية وزارة الصحة من الميزانية العامة لا تتعدى 5.4% ،
• التصدي لآفة التطرف و الإرهاب، خصوصا و أن إشاعة ثقافة الإرهاب تشكل عائقا للتنمية البشرية، إذ ارتبط هذا المفهوم بالعجز الاجتماعي
و الفقر أساسا،
• النمو الديمغرافي السريع و النمو الاقتصادي المتوسط، حيث يسجل عدم قدرة النمو الاقتصادي على تحدي سعة الحاجيات الاجتماعية التي تتطور في ظل ارتفاع نسبة البطالة،
• الإقصاء و عدم الاستقرار الاجتماعي الذي يؤدي إلى تفشي مجموعة من الظواهر الاجتماعية السلبية كالدعارة، الانحراف، و مجموعة من الأمراض الفتاكة.
ثانيا: عجز السياسات الاجتماعية التي كانت تتسم بسياسة الإنزال
و الابتعاد عن نهج الإشراك و الانفتاح و الإدماج، مما يجعلها بمثابة برامج تقليدية
و قديمة، محدودة و فاشلة، تعتمد على سياسة الانعزالية و ضعف التنسيق خصوصا بين القطاعات الوزارية.
و قد اعتمدت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على مجموعة من الآليات
و الميكانيزمات التي من شأنها أن تساهم في تحسين مؤشر التنمية
البشرية، و تقليص نسبة الفقر من 38% إلى 20 % ، و تمثلت هذه المرتكزات في العمل على تشخيص الإشكالية الاجتماعية بالمغرب، العمل على استئصال ظاهرة الفقر، الانفتاح على المحيط الدولي و التجاوب مع الظرفية العالمية
و مناخها الثقافي المتحول عبر العمل على التعبئة الاجتماعية، و استخلاص العبر و الدروس من التجارب التنموية السابقة و من النماذج الموفقة لبعض البلدان في مجال محاربة الفقر و الإقصاء بالاعتماد على آليات جديدة، كالحكامة الجيدة من خلال برامج أربعة يمكن إجمالها في برنامجين، البرنامج العمودي و البرنامج الأفقي، مستعينة في منهجيتها على مجموعة من الهياكل و المؤسسات، سواء كانت مركزية أو جهوية أو إقليمية محلية مستفيدة من تمويل بلغ 10 ملايير درهم.
و تتجلى هذه البرامج في:
* برنامج محاربة الفقر بالعالم القروي الذي يستهدف 403 جماعة قروية استنادا إلى نسبة الفقر المحددة في 22% بعد أن كانت محددة في 30% كمعيار مرجعي و يهدف إلى دعم الأنشطة المدرة للدخل، تعميم الاستفادة من التجهيزات
و الخدمات الاجتماعية، إيلاء الاهتمام بالتنشيط الاجتماعي و الثقافي
و الرياضي، ثم دعم التنمية المحلية.
* برنامج محاربة الإقصاء بالمجال الحضري، و قد جاء من أجل توفير كافة الشروط و الضمانات اللازمة للنهوض بوضعية السكان، باستهدافه 264 حيا حضريا ضمن الأحياء الأقل حظوة بالمدن الكبرى، حيث تم الاعتماد في تحديد هذه الأحياء على معايير معدل البطالة، حجم الساكنة المستهدفة، وجود و حجم السكن العشوائي، الخصاص في البنيات و الخدمات العمومية الأساسية، التكامل مع البرامج التنموية المحلية المبرمجة أو في طور البرمجة، المساهمة المالية للشركاء خصوصا الجماعات المحلية و يرمي هذا البرنامج إلى:
- النهوض بالأنشطة المدرة للدخل و لفرص الشغل للجماعات غير المحظوظة، و بصفة خاصة النساء و الشباب؛
- دعم الشغيلة المستقلة و المقاولات الصغيرة في الصناعة التقليدية
و الفلاحة الحضرية و الحرف الخدماتية البسيطة،
- الترقية الاجتماعية للشباب غير المحضوضين بواسطة التكوين التأهيلي
و تنمية الحرف الحضرية البسيطة؛
- تحسين الولوج إلى الخدمات العمومية و الحضرية الأساسية لفائدة الساكنة الفقيرة؛
- إنشاء خدمات القرب لفائدة الساكنة غير المحظوظة، كالترفيه، التجهيزات الثقافية و الرياضية و التربوية و الصحية و الأمنية...الخ؛
- تعبئة الأطراف المتدخلة، و بالخصوص الجمعيات المستقرة في عين المكان؛
- تحسين ظروف إقامة الساكنة الفقيرة في الأحياء المستهدفة.
* برنامج محاربة الهشاشة و التهميش الذي يهدف عبر محاور ثلاثة إلى:
- إعطاء الأولوية لإعادة الإدماج العائلي و السوسيومهني للأشخاص المعنيين،
- تحسين نوعية الخدمات المقدمة حاليا من طرف المؤسسات العمومية والجمعيات لأجل بلوغ المواصفات التي تتطابق و الشروط العامة لتأمين الظروف المناسبة للكرامة الإنسانية،
- تحسين تدبير المراكز و الجمعيات المتدخلة في موضوع الهشاشة من أجل تفعيل و احترام المواصفات الموحدة و عقود برامج التدبير، و إحداث مراكز إضافية جديدة للاستقبال حسب الحاجة.
و قد حدد برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سبع فئات عامة بالنسبة للأشخاص الموجودين في وضعية هشة على الشكل التالي:
- الشباب بدون مأوى و أطفال الشوارع،
- الأطفال المتخلى عنهم،
- النساء في وضعية اجتماعية جد صعبة،
- المتسولون و المتسكعون،
- قدماء السجناء بدون موارد،
- الأشخاص ذوي الحاجات الخاصة بدون موارد،
- العجزة المعوزون.
و بالتالي فالمجالات التي يشتغل عليها البرنامج، فهي تنقسم إلى أربع مجالات: الطفولة، السكن، الصحة و الانحراف.
و في جانب آخر، فالبرنامج الأفقي يهدف إلى تمويل المشاريع ذات الوقع الكبير على التنمية البشرية على صعيد كافة الجماعات القروية و الحضرية غير المستهدفة، و ذلك من خلال دعم المشاريع ذات الوقع القوي عن طريق المشاريع و العمليات الأفقية كالأنشطة المدرة للدخل، و دعم جمعيات القروض
الصغرى، و تحسين الاستفادة من الخدمات الاجتماعية عن طريق تحسين الولوج إلى الخدمات و البنيات الأساسية. و يستهدف التنشيط الاجتماعي و الثقافي
و الرياضي عن طريق دعم عملية التنشيط الاجتماعي و دعم مزاولة
الرياضة، و ترشيد الحكامة المحلية بدعم الكفاءات المحلية و التكوين
و الخبرة...، كما يهدف إلى الرفع من قدرات الكفاءات و الفاعلين المحليين في المجالات المرتبطة بالشأن التنموي عبر إحداث مرصد للتنمية البشرية و العمل وفق نظام للمعلوميات و الاتصال و محاولة تعميم الخبرة و التجربة.
إن تنفيذ هذه البرامج يبقى كفيلا بنوعية التدخل و تطبيق آليات الحكامة على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فالمرور من التدبير المعقلن عبر التخطيط
و الرؤية الإستراتيجية، و الاعتماد على قواعد القانون و المساواة، و انتهاء بمرحلة التقييم و المراقبة التي تعتبر من أهم وسائل التتبع لمراحل تنفيذ المبادرة، من شأنه أن يدفعنا إلى التساؤل حول طبيعة الجهات التي يوكل إليها هذا الدور. فعملية المتابعة تبقى من اختصاص السلطات العمومية بما في ذلك
الحكومة و السلطات المحلية من جهة، و من جهة ثانية الجماعات المحلية
و المنتخبون، أما الطرف الثاني الذي يتدخل في هذه العملية فيتمثل في المجتمع المدني مكونا من قطاع خاص و نسيج جمعوي.
أما بالنسبة لآليات تفعيل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فقد التصق في بعده الاستراتيجي بمقاربتين أساسيتين هما المقاربة التشاركية و المقاربة
المندمجة، و هذا من شأنه أن يعطي نفسا تجديديا في ثقافة تدبير السياسات العمومية للمبادرة الوطنية من جهة، و يقدم خطة عمل فعالة و آلية توحيدية لمختلف المتدخلين المعنيين بتفعيلها من جهة ثانية.
و من أجل السهر على تطبيق برامج ومخططات المبادرة الوطنية، رصدت العديد من الآليات والأجهزة التي تعتمد على مبادئ اللامركزية و الاندماج
و المشاركة، بالإضافة إلى تعبئة الموارد المالية الضرورية الكفيلة لإنجاز البرامج والمشاريع المسطرة. إذ تعتمد المبادرة على نهج مبادئ الشفافية، و الحكامة
الجيدة، و الديمقراطية التشاركية، من خلال توفير مجموعة من الأجهزة و الآليات المؤسساتية التي تتوزع بين ما هو مركزي، و تجدر الإشارة هنا إلى "اللجنة الإستراتيجية للتنمية البشرية" و "لجنة قيادة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"، و ما هو محلي إذ تم إحداث لجنة محلية للتنمية البشرية، ثم على الصعيد الإقليمي، فقد أحدثت لجنة إقليمية يرأسها العامل، أما على المستوى الجهوي، فيسهر الوالي على "اللجنة الجهوية للتنمية البشرية"، هذا بالإضافة إلى إحداث مرصد وطني للتنمية البشرية.
إن الحديث عن الحكامة الجيدة و التنمية المحلية يبقى مرتبطا أساسا بمدى العلاقة التي تربط بعضهما البعض، على أساس أن التنمية المحلية لا يمكن أن تتأسس إلا إذا قامت على مجموعة من المبادئ على رأسها مرتكزات الحكامة الجيدة. فالحكامة أو الحكم الرشيد، هي الضامن لتحويل النمو الاقتصادي
و الاجتماعي و الثقافي و حتى الإداري إلى تنمية مستدامة و إلى أبعد من
ذلك، إلى ما أصبح يصطلح عليه اليوم بالتنمية الإنسانية.
إن الحكامة تبقى إستراتيجية جزئية حتمية من إستراتيجية أعم و أشمل، هي الإستراتيجية التنموية المستدامة بكل أبعادها، حيث تشكل كل هذه الأبعاد كلا متكاملا تتداخل عناصره و تترابط محاوره، و تتشابك مكوناته في عمليات متبادلة منسجمة تسعى إلى تحقيق المبادرة.
إذا كانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إستراتيجية و خيارا وطنيا من أجل حل المعضلة الاجتماعية و النهوض بمقومات التنمية المحلية ، فإلى أي حد استطاعت هذه المبادرة من خلال تطبيقاتها و انجازاتها خلخلة مؤشرات التنمية المحلية على صعيد إقليم آسفي؟ و ما هي أهم الخلاصات التي يمكن استنتاجها من خلال هذه التجربة التي تعدت فترتها أربع سنوات بقليل؟ و ما هي أهم العراقيل التي واجهت تطبيق مخططات هذه المبادرة في ظل مجموعة من الإكراهات الإدارية و المالية و البشرية؟
هذا ما حاولنا الإجابة عنه من خلال الفصل الثاني : "مساهمة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في تحقيق التنمية المحلية من خلال مؤشرات الإنجاز"
فقد بلغت حصيلة برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلى حدود سنة 2008 ما مجموعه 535 مشروعا، استفاد منها ما يقارب 344 ألف مستفيد بكلفة إجمالية بلغت 289.189.982,00 مساهمة المبادرة منها بلغت 182.050.000,00 أي بنسبة 63% من تمويل المبادرة على صعيد إقليم آسفي.
و تجلت قيمة المشاريع المنجزة في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية محليا في:
1- من حيث قيمة الاعتمادات المرصودة، إذ بلغت الكلفة الإجمالية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية على مستوى إقليم آسفي ما مجموعه 289.189.982.00 توزعت على برامج المبادرة الأربعة بنسب متفاوتة. نسبة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بلغت 63% من مجموع الكلفة المالية للمبادرة مقابل مساهمة الشركاء المحددة في 37%.
فمن خلال الأرقام يتبين أن الاعتمادات المرصودة لبرامج المبادرة اختلفت باختلاف طبيعة المشاريع التي تعتمدها هذه البرامج، و يبقى برنامج محاربة الإقصاء الاجتماعي أول البرامج المستفيدة من حيث الاعتمادات المالية المرصودة، يليه البرنامج الأفقي. و هذا راجع بالضرورة إلى:
- العوز الذي يعرفه المجتمع في هذا الإطار، نظرا لارتفاع عدد الأشخاص الذين يعانون من الإقصاء الاجتماعي،
- الصعوبات التي عرفتها البرامج الأخرى و خصوصا عدم استيعاب فلسفة المبادرة منذ الوهلة الأولى،
- فشل بعض المشاريع الراجع بالأساس إلى السرعة في التصور و الانجاز،
- عدم إعطاء مسألة التدبير الأهمية التي تستحق،
- حمل مجموعة من المشاريع من طرف بعض الجمعيات الحديثة العهد و التي ينقص القائمين على شؤونها التكوين، بالإضافة إلى تكرار المشاريع و قلة الابتكار.
بخلاف البرنامج الأفقي و كذلك البرنامج محاربة الإقصاء الاجتماعي الذي انكب أساسا حول حل المعضلة الاجتماعية لمجموعة من الأشخاص عبر تمويل و تشييد و تأهيل البنيات التحتية الأساسية و تشجيع الأنشطة المدرة للدخل و المواكبة الاجتماعية.
2- من حيث المشاريع و عدد المستفيدين: فقد تفاوتت نسب المشاريع المنجزة على طول سنوات المبادرة انطلاقا من 2005 إلى حدود 2008، إذ احتلت بذلك المشاريع المنبثقة عن البرنامج الأفقي الصدارة ب 224 مشروعا، في حين تجسدت مشاريع برنامج محاربة الفقر في 119 مشروعا، و برنامج محاربة الإقصاء الاجتماعي في 101 مشروعا و برنامج محاربة الهشاشة في 91 مشروعا، و بالتالي فقد قدرت نسبة تمثيلية مشاريع البرنامج الأفقي ب 41.86%، مقارنة مع البرنامج العمودي الذي يبقى ممثلا بنسبة 58.14% بمجموع مشاريع بلغ 311 مشروعا، إلا أنه يمكن القول أن نسبة 41.86% هي نسبة مرتفعة بالمقارنة مع نسبة انجاز مشاريع البرامج الأخرى مما يبين مدى اهتمام المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بالبرنامج الأفقي.
و مقارنة بين البرامج فيما يخص عدد المستفيدين، يأتي برنامج محاربة الإقصاء في المرتبة الأولى من حيث عدد المستفيدين بنسبة 39.76% يليه البرنامج الأفقي بنسبة 33.07% ثم برنامج محاربة الفقر ب 20.74% ثم برنامج محاربة الهشاشة ب 6.39% .
إن النتيجة التي آلت إليها المبادرة محليا ما هي إلا صورة مصغرة لما تعرفه المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وطنيا، إذ أن الشيء نفسه يسري على نتائجها فيما يخص عدد المشاريع المنجزة و حتى بالنسبة لعدد المستفيدين، إذ يبقى البرنامج الأفقي ذا مكانة كبيرة ضمن المشاريع الأخرى و يبقى البرنامج الأول من حيث الأهمية.
إن خلخلة مؤشر التنمية البشرية من شأنه أن يجعلنا أن نتساءل حول طبيعة
و قدرة تلك المدخلات التي من خلالها يمكن أن نستنبط مدى تفاعل هذه المكونات و تأثرها إزاء التغيير الذي سيطرأ عليها من قبل تلك المؤثرات الخارجية، و ما المشاريع المنضوية تحت لواء المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلا مؤثرا و فاعلا و مغيرا لواقع اجتماعي تعيشه مجموعة من السكان على أرض معينة. ساكنة تعاني من كل مشاكل الفقر، و التهميش، و البطالة، و ضعف التعليم، ومن نقص حاد في البنى التحتية، و من الأمية ...الخ
كل هذه المشاكل ، و من خلال الأرقام و الإحصاءات التي استخدمناها كأرضية و مادة مختبرية، من شأنها أن ستساعدنا على فهم واقع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على مستوى إقليم آسفي، و رغم أنه لم يحن الوقت المحدد لإعطاء التقييم الإجمالي لحصيلة المبادرة، لكن يمكننا أن نستشف الإرهاصات الأولية للتغيير من خلال المشاريع المنجزة و قدرتها على سد مكامن الخلل المحددة أساسا في أهداف المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، المتمثلة في دعم المشاريع المدرة للدخل، تحسين ظروف الولوج إلى الخدمات و البنى التحتية الأساسية، دعم الأشخاص ذوي العوز الشديد، التنشيط السوسيوثقافي و الرياضي، تنمية القدرات المحلية و الحكامة الجيدة.
إن تسجيل 385 مشروعا تستهدف تحقيق الأهداف السابقة الذكر من ضمن 535 مشروع كحصيلة ثلاث سنوات، يبقى مشجعا إلى حد ما، إذ تعتبر نسبة 71.96% من المشاريع ذات الوقع الكبير و المتمركز على أهداف المبادرة بالشيء الايجابي، لكن طبيعة المشاريع من شأنها أن تنقص من قيمة هذا
الوقع، على اعتبار تواجد مجموعة من المشاريع ذات الوقع الاجتماعي
و الاقتصادي الضعيف و الراجع بالأساس إلى عدم اختيار المواقع و المستهدفين بدقة، كما أن توزيعها يبقى عشوائيا الشيء الذي سيؤثر سلبا على مردودية
و فعالية تلك المشاريع.
إن حصيلة المبادرة، لم تعبر عما كان منتظرا، إذ لم تأت مطابقة لهم المشاريع، و بالتالي فبرامجها، محليا أو وطنيا، جاءت مجانبة للطموح الوطني المتجسد في القضاء على العجز الاجتماعي رغم بعض الإرهاصات الأولية للتغيير التي عرفتها مجالات التدخل، مما ينتج عنه ضعف كمي و نوعي في البرامج الاجتماعية المعتمدة، نقص في احترام الأهداف المسطرة، ضعف في التجسيد الفعلي و العملي لمنطق الحكامة في أدوار الأطراف المشكلة لها، أ كانت أطرافا عمومية رسمية، أو أطرافا غير رسمية كالقطاع الخاص أو المجتمع المدني، و استمرارية ضعف تكريس ثقافة الشراكة، و هزالة في عمليات التكوين و تقوية الكفاءات.
مع وجود هذه النقاط السلبية، لا يمكننا أن نتجاهل النقاط الإيجابية التي أتت بها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. إذ استطاعت هذه الأخيرة خلق دينامية جديدة بين الأطراف المتدخلة، و أن تبرز قدرتها على اختيار المشاريع و تتبعها
و تقييمها من خلال المشاركة الفعلية للسكان، و ترسيخ مبدأ تحمل المسؤولية
و الاعتماد على النفس لدى الساكنة بفضل الأنشطة المدرة
للدخل، و تحسن مستوى الولوج إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية.
جاءت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كهندسة اجتماعية حقيقية تتجسد من خلال تحديد طرق التدخل مع اعتماد طرق تفضي إلى نتائج قوية و استخدام وسائل غير مكلفة، و تكوين الموارد البشرية المؤهلة و السهر على سير
المبادرة، و وضع آليات مراقبة و رصد لظواهر الفقر و الإقصاء بكل موضوعية و يقظة و شفافية، و اعتبار انطلاقتها فرصة مواتية للتصالح مع الذات
و مع المجتمع مع الاعتماد على مفاهيم جديدة كالمقاربة التشاركية و المقاربة المندمجة، التشخيص التشاركي التقييم، الافتحاص و المراقبة...هذا بالإضافة إلى انفتاح الإدارة على جمعيات و هيئات المجتمع المدني و اعتبارها شريكا أساسيا يجب استشارته و العمل بجانبه. هذا في الوقت الذي تعتبر فيه المبادرة برنامجا نابعا من الإرادة، الشيء الذي يظهر جليا غياب الحكومة و فشلها في النهوض بالملف الاجتماعي و تأخر الفاعلين السياسيين في الأخذ بزمام الأمور، و الارتكان إلى الوراء في انتظار المبادرات الملكية في حين اقتصر دورهم على التنفيذ.
على العموم، يمكن القول أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هي مبادرة تشاركية و منفتحة على جميع المواطنين مصدرها الإرادة الملكية من أجل النهوض بالمستوى المعيشي للمغاربة و القضاء على براثين الفقر و الرفع من مؤشر التنمية البشرية بالمغرب، معتمدة في ذلك على كفاءات بشرية مؤهلة خضعت و لازالت تخضع لتكوينات مستمرة، بالإضافة إلى نهج سياسة الانتقائية في المشاريع و الالتقائية بين القطاعات.
إن الحديث عن خصائص المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لا ينف وجود معيقات تعيق سير و تنفيذ برامجها، و هذا ما حدا بصاحب الجلالة في خطاب العرش ليوم 30 يوليوز 2009 أن ينبه الى وجود تلك الاكراهات.
عند تقديمنا لأهم الإكراهات التي واجهت تطبيق المبادرة الوطنية للتنمية
البشرية، ارتأينا أن نقسمها إلى إكراهات مالية، إدارية و أخرى فلسفية.
• اكراهات فلسفية تتمثل أساسا في عدم استيعاب الفلسفة الجديدة خصوصا المجتمع المدني، و يرجع الأمر إلى ضعف الدور الإعلامي الذي يراد منه إطلاع الجميع بفحوى المبادرة، و ببرامجها و فلسفتها، و عدم اقتصاره على الهيئات و اللجان المتصلة مباشرة بالمبادرة، أو الباحثين الجامعيين، الشيء الذي سيجعل المبادرة برنامجا تفييئيا، في حين أنه برنامج منفتح على كل طاقات المجتمع.
• اكراهات إدارية تتمثل أساسا في الثقل البيروقراطي، مع الدور الذي أعطي للإدارة الترابية في الإشراف على برامجها و هذا راجع بالأساس إلى جدة البرنامج من جهة و كذلك إلى قدرة الإدارة على تدبير مالية المبادرة، كما ارتبط هذا الثقل بالإشكاليات التي طرحتها فلسفة و تطبيق المقاربة التشاركية مع العلاقة التي انتظمت بين المجتمع المدني و ممثلي السلطة المركزية، و بالطريقة التي دبرت بها المبادرة خاصة على المستوى المركزي. كما يسجل نقص في الموارد البشرية، خصوصا أطر بعض القطاعات كالصحة، و يمكن أن نسجل هزالة التكوينات المقدمة، لا من حيث وثيرتها المتثاقلة و سيرورتها المنقطعة، على اعتبار أن التكوينات الموسمية تبقى عديمة الجدوى و ذات محتوى فارغ، بالمقارنة مع طبيعة
و حجم و قوة برامج المبادرة.
و إذا كانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تعتمد في إستراتيجيتها على مجموعة من الآليات و المقاربات أهمها المقاربة التشاركية و المقاربة المندمجة، فإن النسيج الجمعوي، باعتباره شريكا أساسيا في هذه العملية التنموية، يعاني من عدة مشاكل تشكل عائقا أمام التنمية البشرية و التنمية المحلية، هذه العراقيل تتمثل في كثرة الجمعيات و تناسلها بقوة غريبة، السرعة في التصور و الانجاز، مما يؤدي إلى تشابه الأفكار و البرامج، و غياب التجديد و الابتكار، و صعوبة تكييف ما تحقق من مشاريع المبادرة مع حاجيات المؤشر الوطني للتنمية البشرية، كما أن تعدد المشاريع و تنوعها يصعب من مهمة قياسها كيفيا و بطريقة واضحة المعالم، سواء من حيث تأصيل المقاربة التشاركية، أو من حيث التأثير الايجابي على مسارات إنتاج التنمية المحلية.
و في إطار مقاربات الحكامة الجيدة لتطوير آليات المبادرة، و خصوصا المقاربتين السالفتي الذكر، يمكن تسجيل عدم اعتماد ترتيبات دقيقة و واضحة لالتقائية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مع البرامج القطاعية سواء من ناحية التكاملية المالية أو من حيث التوظيف الايجابي للمبادرة بوصفها رافعة للمردودية الاجتماعية. و كذلك غياب التنسيق بين الجهات المهتمة على اعتبار التنمية وحدة متكاملة لا تقبل التجزيء، مما يؤدي إلى عدم ضمان استمرارية البرامج المسطرة مسبقا و التي هي من أهم مميزات المبادرة في حد ذاتها.
• اكراهات مالية: فإذا كان البحث العلمي عاملا أساسيا في التنمية البشرية و يلعب دورا مهما في النهوض بها، فإن انغلاقه و عدم استفادته من ميزانية مريحة، يؤدي إلى محدودية مردوديته، لتبقى ضئيلة بالمقارنة مع ما هو منتظر منه في هذا الإطار، هذا بالإضافة إلى ما تعرفه الجماعات المحلية، قروية أو حضرية من نقص مهول في ميزانيتها، إذ تصبح عاجزة عن سد احتياجاتها فيما يخص الشق المتعلق بالتجهيز و الاستثمار و حتى التسيير، فبالأحرى المساهمة في برامج التنمية البشرية و التي تصل إلى 20%، الشيء الذي يدفعنا إلى التساؤل عن الدور الذي قد تلعبه في غياب أدنى الوسائل و الإمكانيات المادية التي تؤهلها إلى ذلك، في الوقت الذي تعرف فيه المالية المحلية مجموعة من الاختلالات، سواء الجبائية منها أو البشرية أو القانونية.
و بالإضافة إلى هذه الاكراهات، فقد تظهر إكراهات كبيرة يصعب معها إيجاد حلول آنية، و هذا ما أقره التقرير الوطني للخمسينية حين أكد تواجد مجموعة من الإكراهات تتمثل في عدم التمكن من التحكم في أجندة
الإصلاحات، الاستسلام للاكراهات الظرفية، عدم بلوغ السقف المطلوب و الوثيرة الكافية في العمل الإصلاحي، عدم تطبيق القوانين و الاتفاقيات الملتزم
بها، و حدوث أزمة خارجية أو داخلية حادة، الشيء الذي يستدعي اعتماد مجموعة من التدابير الاحترازية لتجنب الوقوع في هذه المشاكل.
و إذا كانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تعاني من مجموعة من الاكراهات، فلابد من البحث عن حلول واقعية. و لعل الخطاب الملكي ليوم 30يوليوز 2009، يعد منبها إلى تلك الحلول المتمثلة في:
- أولا: توخي المزيد من النجاعة و المكتسبات، و لن يتأتى ذلك إلا بمراعاة نوعية و استمرارية المشاريع، و الحرص على التقائيتها مع مختلف البرامج القطاعية، و مخططات التنمية الجماعية؛
- ثانيا: ضرورة إخضاع مشاريعها للتقييم و المراقبة، و الأخذ بتوصيات المرصد الوطني للتنمية البشرية؛
- ثالثا: التركيز على المشاريع الصغرى الموفرة لفرص الشغل و للدخل
القار، لاسيما في الظرفية الاقتصادية الصعبة.
هذا في الوقت الذي تعتبر فيه الحكامة الجيدة، سواء كانت إدارية أو مالية، بمبادئها التخطيط، الرؤية الإستراتيجية، المحاسبة، المساءلة، حكم القانون، المساواة، الشفافية، التنظيم و المراقبة سواء كانت قبلية أو آنية أو بعدية بمثابة ركيزة أساسية لإنجاح المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.إن إقرارنا بالدور الكبير الذي تلعبه الحكامة الجيدة من أجل إنجاح المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، من شأنه أن يتماشى في الأصل مع إعلان البنك الدولي و دعمه للمبادرة، و اعتباره أن المبادرة محكومة بالنجاح إذا تمت مراعاة مبدأين اثنين أساسيين هما الحكامة الجيدة و الشفافية التي هي جزء من الحكامة.
و تشكل التنمية المحلية المندمجة و التشاركية، الإطار الأمثل لبلورة السياسات الاجتماعية و الاقتصادية الوطنية بصفة عامة، و لعل هذا راجع بالأساس إلى العديد من الاعتبارات، منها التدبير المركزي و عدم تمكنه من مقاربة مختلف العمليات التنموية طبقا للخصوصيات الجهوية المحلية، بالإضافة إلى ما يوفره هذا الأسلوب من إطار ديمقراطي يسمح لجميع أطراف المجتمع المساهمة في العملية التنموية، في الوقت الذي تبقى فيه الالتقائية كآلية مهمة من أجل تفعيل المبادرة و من أبرز تجسيدات الحكامة المحلية الجيدة.
و أمام هذه الحلول، يبقى المواطن عنصرا مهما في العملية التنموية، و المواطنة تعتبر سبيلا من سبل إنجاح المبادرة من أجل تنمية بشرية ملؤها التكامل و التضامن و التعاون.
و تبقى العلاقة بين المواطنة و التنمية البشرية علاقة متينة، على أساس أن بناء الوطن هو قوام المواطنة، و التنمية البشرية هي بناء الوطن بالمعنى
الشامل، فكلما كانت المواطنة أصيلة و قوية، كان إسهام المواطن في التنمية البشرية فاعلا و مؤثرا، و بالتالي حينما نؤكد على أخلاقيات المواطنة، نكون في الوقت نفسه نؤكد على ترسيخ أسس التنمية البشرية التي تهدف إلى تحقيق التقدم
و الرفاهية لجميع أفراد المجتمع.
إن الوقوف على التفاعل القائم بين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية
و التنمية المحلية، من شأنه أن يحدد معالم العلاقة القائمة بين المفهومين، و يفتح بوابة فهم و استيعاب لواقع التنمية البشرية بالمغرب، و تأثير المبادرة على التنمية المحلية، رغم مخاطر الخوض في هذا الموضوع العديدة نظرا لجدته و التطورات الطارئة التي من شأنها أن تغير معالم هذا البحث في أي حين. و يتجلى هذا التفاعل من خلال مجموعة من الميكانيزمات، سواء تعلق الأمر بالمقاربات المعتمدة، أو ما تعلق بالعنصر البشري و الإمكانات المادية و سبل عقلنتها عبر الاعتماد على آليات حديثة أهمها الحكامة الجيدة.
و تتجلى أهمية الموضوع في السعي إلى تحقيق الأهداف التالية:
- الوقوف على العلاقة بين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية و التنمية المحلية،
- إبراز أهم خصائص المبادرة التي تساعدها على تحقيق أهدافها،
- إظهار الدور الذي تلعبه آليات المبادرة في تحقيق التنمية المحلية،
- التعرف على آليات المبادرة خصوصا الحكامة الجيدة،
- الوقوف على مظاهر تأثير المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على التنمية المحلية من خلال مؤشرات الانجاز،
- دراسة العلاقة من خلال المقاربات الحديثة كالمقاربة التشاركية
و المندمجة،
- الوقوف على أهم إكراهات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية،
- محاولة إعطاء تصور عام و حلول من أجل تنمية محلية قائمة على أساس التنمية البشرية على جميع المستويات.
إن اختيار الموضوع لم يأت اعتباطيا أو عشوائيا، و إنما جاء بعد تفكير ملي في قيمته العلمية و طرق التطرق إليه نظرا لأهميته البالغة، و التأكد من توفر شروط البحث العلمي فيه، خصوصا أن ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لازال مفتوحا و في بدايته.
تتمثل الدوافع الذاتية في كون دراسة هذا الموضوع له علاقة وطيدة
و صلة متينة مع تخصصنا الدراسي" تدبير الإدارة المحلية"، كما أن سؤال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية و علاقتها بالتنمية المحلية كان و لازال يطرح بالنسبة للباحث نوعا من القلق المعرفي، الشيء الذي يدفعنا إلى الخوض في هذا الموضوع.
إن تحليل العلاقة القائمة بين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية و التنمية المحلية يجعلنا مضطرين إلى تحديد المفاهيم الأساسية لهذه الثنائية، و المتمثلة أساسا في مفهومين أساسيين: المبادرة الوطنية للتنمية البشرية و التنمية المحلية، على اعتبار أن كلا المفهومين يضم مفاهيم فرعية. و عموما يمكن القول أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هي مرجعية إستراتيجية تعنى بالتنمية الاجتماعية، و تهتم بتنمية المجال، وتركز على الفاعل الاجتماعي (الموارد البشرية) عبر الزيادة في قدرات البشر على الاختيار وتمكينهم من ممارسة هذه الخيارات، وتفجير طاقاتهم الإبداعية وتمكينهم من المشاركة في أمور حياتهم.
أما بالنسبة للتنمية المحلية فهي عملية توزيع و إغناء الأنشطة الاقتصادية
و الاجتماعية و الثقافية على مجال ترابي معين، من خلال تعبئة و تنسيق مواردها و طاقاتها قصد تحسين ظروف عيش السكان القاطنين في ذلك الفضاء بكيفية مستدامة.
و يحاول هذا الموضوع من خلال الإحاطة بالجوانب المحيطة بمبادئ المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تجاوز مرحلة الوصف، و الخوض في مرحلة تتسم بالتحليل العلائقي لاستنباط أوجه التأثير الذي يمكن أن تمارسه المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على التنمية المحلية من خلال الإجابة عن الإشكالية المحورية المتمثلة في: إلى أي حد ساهمت و تساهم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في تحقيق التنمية المحلية؟ تتفرع عنها إشكاليتان فرعيتان:
- إلى أي مدى تعتبر المبادرة الوطنية للتنمية البشرية محددا من المحددات الجوهرية للتنمية المحلية؟
- هل استطاعت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من خلال تطبيقاتها
و إنجازاتها، الدفع و خلخلة مؤشرات التنمية المحلية على صعيد إقليم آسفي؟
و انطلاقا من هاته الإشكاليات نجدنا أمام مجموعة من الأسئلة التي تستوجب البحث عن إجابات شافية لها:
- هل تحقيق التنمية المحلية رهين بنجاح برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، أم أن هناك عوامل أخرى تساهم في تحقيق هذه التنمية؟
- هل المبادرة كفيلة لوحدها بإنجاح طموح التنمية المحلية؟
- ما هي الميكانيزمات المعتمدة من أجل تحقيق هذه التنمية؟
- هل يمكن الحديث عن مبادرة وطنية أم أن الأمر لا يتعدى كونه مؤشرا للتنمية البشرية؟
- ما هي العبر المستخلصة من خلال المنجزات الأولية لبرامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على المستوى المحلي ( آسفي نموذجا)؟
- ما هي أهم الصعوبات التي واجهت تطبيق هذا الورش، و ما هي أهم الحلول التي يمكن اعتمادها من أجل تجاوز هذه الإكراهات؟
إن اختيارنا لعدة مناهج البحث العلمي جاء لضرورة ملحة من أجل الإجابة على التساؤلات السابقة، و لقياس نسبة التأثير و التغيير الذي سيطرأ على مؤشرات التنمية المحلية:
و يعتبر المنهج الوصفي المسحي أول هذه المناهج، على اعتبار أن الدراسة تستدعي منا تجميع المعلومات الخاصة بالموضوع، و وصفا لبرامج المبادرة الوطنية من جهة، و وصف و تحليل و تفسير البيانات الخاصة بموضوع البحث ألا و هي البيانات الخاصة بالمبادرة على المستوى المحلي، الشيء الذي يجعلنا مضطرين إلى اعتماد منهج دراسة الحالة، على اعتبار أن الموضوع يستدعي البحث المتعمق في العوامل المتعددة التي تسهم في تشكيل الوحدة الاجتماعية.
إن الخروج بخلاصات و قياس مدى التفاعل القائم داخل البنية، يستلزم منا الاعتماد على المنهج النسقي باعتباره منهجا مركبا، يتكون من المنهج الوظيفي
و المنهج البنيوي. فالمنهج النسقي يقوم على المزج بين هاذين المنهجين، الوظيفي و البنيوي، إذ أنه يصعب في مجال العلوم الاجتماعية الفصل بين البنية و الوظيفة و النسق. فالبنيوية تستدعي الوظيفة، و هذه الأخيرة لا تدرك إلا من خلال بنية تشتغل فيها و عليها، على أساس أن البنيوية/الوظيفية تسعى إلى تحليل الواقع الاجتماعي أو الفعل الاجتماعي. فالنسق إذن ما هو إلا تلك الوظائف و التفاعلات التي تحدث داخل بنية ما من خلال مدخلات "In put" و مخرجات "out put" لتعطينا المعادلة التالية: "البنية + الوظيفة = نسق أو منظومة، فالنسق ما هو إلا تلك الوظائف و التفاعلات التي تحدث داخل بنية ما".
و الإجابة عن الإشكالية المحورية تستدعي منا أن نعتمد على التصميم التالي:
الفصل الأول: المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كآلية للتنمية المحلية.
الفصل الثاني: مساهمة المبادرة الوطنية للتنمية في تحقيق التنمية المحلية من خلال مؤشرات الإنجاز.
لقد جاءت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كعملية تصحيحية و إستراتيجية وطنية فرضتها ظروف دولية و وطنية، و انبثقت عن إرادة ملكية من خلالها يمكن القضاء على العجز الاجتماعي. فقد أعطى صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله انطلاقة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في 18 ماي من سنة 2005 محددا أهدافها و مراميها، و مجسدا روحها و فلسفتها و آليات تنفيذها،
و أجرأتها في خطابه السامي في 20 غشت 2005. فقد اعتبر ترتيب المغرب ضمن المراكز المتأخرة في ترتيب برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية لسنة 2005 بتموقعه في المرتبة 124 من بين 177 دولة و تصنيفه من ضمن الدول ذات تنمية بشرية متوسطة، بالمؤشر الرئيسي للأزمة الاجتماعية التي يعيشها المغرب اعتبارا لعدة مقاييس منها متوسط العمر، مستوى التعليم، مستوى الدخل الفردي و كذا كيفية توزيع الثروة.
و قد ارتبطت المبادرة بسياق دولي يرتبط أساسا بالتزام المغرب بتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية من أجل القضاء براثين الفقر و الجوع من جهة، و من جهة ثانية التزامه بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان و التعهد باحترام بنود إعلان 1948 لحقوق الإنسان، و هذا ما سعت إليه فعلا المبادرة من خلال اعتمادها على صيانة و ضمان حقوق الإنسان كأولى الأوليات.
أما بالنسبة للسياق الداخلي، فقد اعتبر تقرير الخمسينية بمثابة تنبيه إلى ما ستؤول إليه الأوضاع الاجتماعية خصوصا في السنوات المقبلة إذا لم تتخذ الإجراءات اللازمة.
و تتجلى الأسباب الداخلية في: أولا- تدهور الأوضاع الاجتماعية
إذ تتجلى مظاهر العجز الاجتماعي بالمغرب في مجموعة من المؤشرات التي تتعلق بالأصعدة التالية:
• هاجس المعرفة و المستوى المتدني للتعليم بالمغرب إذ تبلغ نسبة الأمية 42,7% يستحوذ منها المجال القروي القدر الأكبر بنسبة 60%،
• ارتفاع نسبة الفقر بالمغرب إذ بلغت نسبة السكان الذين يعيشون تحت عتبة الفقر في المغرب، أي الذين لا يتعدى دخلهم دولاران في اليوم(تقريبا 16 درهما) 14.3% ،
• تدني مستوى الصحة بالمغرب، خصوصا و أن نسبة ميزانية وزارة الصحة من الميزانية العامة لا تتعدى 5.4% ،
• التصدي لآفة التطرف و الإرهاب، خصوصا و أن إشاعة ثقافة الإرهاب تشكل عائقا للتنمية البشرية، إذ ارتبط هذا المفهوم بالعجز الاجتماعي
و الفقر أساسا،
• النمو الديمغرافي السريع و النمو الاقتصادي المتوسط، حيث يسجل عدم قدرة النمو الاقتصادي على تحدي سعة الحاجيات الاجتماعية التي تتطور في ظل ارتفاع نسبة البطالة،
• الإقصاء و عدم الاستقرار الاجتماعي الذي يؤدي إلى تفشي مجموعة من الظواهر الاجتماعية السلبية كالدعارة، الانحراف، و مجموعة من الأمراض الفتاكة.
ثانيا: عجز السياسات الاجتماعية التي كانت تتسم بسياسة الإنزال
و الابتعاد عن نهج الإشراك و الانفتاح و الإدماج، مما يجعلها بمثابة برامج تقليدية
و قديمة، محدودة و فاشلة، تعتمد على سياسة الانعزالية و ضعف التنسيق خصوصا بين القطاعات الوزارية.
و قد اعتمدت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على مجموعة من الآليات
و الميكانيزمات التي من شأنها أن تساهم في تحسين مؤشر التنمية
البشرية، و تقليص نسبة الفقر من 38% إلى 20 % ، و تمثلت هذه المرتكزات في العمل على تشخيص الإشكالية الاجتماعية بالمغرب، العمل على استئصال ظاهرة الفقر، الانفتاح على المحيط الدولي و التجاوب مع الظرفية العالمية
و مناخها الثقافي المتحول عبر العمل على التعبئة الاجتماعية، و استخلاص العبر و الدروس من التجارب التنموية السابقة و من النماذج الموفقة لبعض البلدان في مجال محاربة الفقر و الإقصاء بالاعتماد على آليات جديدة، كالحكامة الجيدة من خلال برامج أربعة يمكن إجمالها في برنامجين، البرنامج العمودي و البرنامج الأفقي، مستعينة في منهجيتها على مجموعة من الهياكل و المؤسسات، سواء كانت مركزية أو جهوية أو إقليمية محلية مستفيدة من تمويل بلغ 10 ملايير درهم.
و تتجلى هذه البرامج في:
* برنامج محاربة الفقر بالعالم القروي الذي يستهدف 403 جماعة قروية استنادا إلى نسبة الفقر المحددة في 22% بعد أن كانت محددة في 30% كمعيار مرجعي و يهدف إلى دعم الأنشطة المدرة للدخل، تعميم الاستفادة من التجهيزات
و الخدمات الاجتماعية، إيلاء الاهتمام بالتنشيط الاجتماعي و الثقافي
و الرياضي، ثم دعم التنمية المحلية.
* برنامج محاربة الإقصاء بالمجال الحضري، و قد جاء من أجل توفير كافة الشروط و الضمانات اللازمة للنهوض بوضعية السكان، باستهدافه 264 حيا حضريا ضمن الأحياء الأقل حظوة بالمدن الكبرى، حيث تم الاعتماد في تحديد هذه الأحياء على معايير معدل البطالة، حجم الساكنة المستهدفة، وجود و حجم السكن العشوائي، الخصاص في البنيات و الخدمات العمومية الأساسية، التكامل مع البرامج التنموية المحلية المبرمجة أو في طور البرمجة، المساهمة المالية للشركاء خصوصا الجماعات المحلية و يرمي هذا البرنامج إلى:
- النهوض بالأنشطة المدرة للدخل و لفرص الشغل للجماعات غير المحظوظة، و بصفة خاصة النساء و الشباب؛
- دعم الشغيلة المستقلة و المقاولات الصغيرة في الصناعة التقليدية
و الفلاحة الحضرية و الحرف الخدماتية البسيطة،
- الترقية الاجتماعية للشباب غير المحضوضين بواسطة التكوين التأهيلي
و تنمية الحرف الحضرية البسيطة؛
- تحسين الولوج إلى الخدمات العمومية و الحضرية الأساسية لفائدة الساكنة الفقيرة؛
- إنشاء خدمات القرب لفائدة الساكنة غير المحظوظة، كالترفيه، التجهيزات الثقافية و الرياضية و التربوية و الصحية و الأمنية...الخ؛
- تعبئة الأطراف المتدخلة، و بالخصوص الجمعيات المستقرة في عين المكان؛
- تحسين ظروف إقامة الساكنة الفقيرة في الأحياء المستهدفة.
* برنامج محاربة الهشاشة و التهميش الذي يهدف عبر محاور ثلاثة إلى:
- إعطاء الأولوية لإعادة الإدماج العائلي و السوسيومهني للأشخاص المعنيين،
- تحسين نوعية الخدمات المقدمة حاليا من طرف المؤسسات العمومية والجمعيات لأجل بلوغ المواصفات التي تتطابق و الشروط العامة لتأمين الظروف المناسبة للكرامة الإنسانية،
- تحسين تدبير المراكز و الجمعيات المتدخلة في موضوع الهشاشة من أجل تفعيل و احترام المواصفات الموحدة و عقود برامج التدبير، و إحداث مراكز إضافية جديدة للاستقبال حسب الحاجة.
و قد حدد برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سبع فئات عامة بالنسبة للأشخاص الموجودين في وضعية هشة على الشكل التالي:
- الشباب بدون مأوى و أطفال الشوارع،
- الأطفال المتخلى عنهم،
- النساء في وضعية اجتماعية جد صعبة،
- المتسولون و المتسكعون،
- قدماء السجناء بدون موارد،
- الأشخاص ذوي الحاجات الخاصة بدون موارد،
- العجزة المعوزون.
و بالتالي فالمجالات التي يشتغل عليها البرنامج، فهي تنقسم إلى أربع مجالات: الطفولة، السكن، الصحة و الانحراف.
و في جانب آخر، فالبرنامج الأفقي يهدف إلى تمويل المشاريع ذات الوقع الكبير على التنمية البشرية على صعيد كافة الجماعات القروية و الحضرية غير المستهدفة، و ذلك من خلال دعم المشاريع ذات الوقع القوي عن طريق المشاريع و العمليات الأفقية كالأنشطة المدرة للدخل، و دعم جمعيات القروض
الصغرى، و تحسين الاستفادة من الخدمات الاجتماعية عن طريق تحسين الولوج إلى الخدمات و البنيات الأساسية. و يستهدف التنشيط الاجتماعي و الثقافي
و الرياضي عن طريق دعم عملية التنشيط الاجتماعي و دعم مزاولة
الرياضة، و ترشيد الحكامة المحلية بدعم الكفاءات المحلية و التكوين
و الخبرة...، كما يهدف إلى الرفع من قدرات الكفاءات و الفاعلين المحليين في المجالات المرتبطة بالشأن التنموي عبر إحداث مرصد للتنمية البشرية و العمل وفق نظام للمعلوميات و الاتصال و محاولة تعميم الخبرة و التجربة.
إن تنفيذ هذه البرامج يبقى كفيلا بنوعية التدخل و تطبيق آليات الحكامة على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فالمرور من التدبير المعقلن عبر التخطيط
و الرؤية الإستراتيجية، و الاعتماد على قواعد القانون و المساواة، و انتهاء بمرحلة التقييم و المراقبة التي تعتبر من أهم وسائل التتبع لمراحل تنفيذ المبادرة، من شأنه أن يدفعنا إلى التساؤل حول طبيعة الجهات التي يوكل إليها هذا الدور. فعملية المتابعة تبقى من اختصاص السلطات العمومية بما في ذلك
الحكومة و السلطات المحلية من جهة، و من جهة ثانية الجماعات المحلية
و المنتخبون، أما الطرف الثاني الذي يتدخل في هذه العملية فيتمثل في المجتمع المدني مكونا من قطاع خاص و نسيج جمعوي.
أما بالنسبة لآليات تفعيل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فقد التصق في بعده الاستراتيجي بمقاربتين أساسيتين هما المقاربة التشاركية و المقاربة
المندمجة، و هذا من شأنه أن يعطي نفسا تجديديا في ثقافة تدبير السياسات العمومية للمبادرة الوطنية من جهة، و يقدم خطة عمل فعالة و آلية توحيدية لمختلف المتدخلين المعنيين بتفعيلها من جهة ثانية.
و من أجل السهر على تطبيق برامج ومخططات المبادرة الوطنية، رصدت العديد من الآليات والأجهزة التي تعتمد على مبادئ اللامركزية و الاندماج
و المشاركة، بالإضافة إلى تعبئة الموارد المالية الضرورية الكفيلة لإنجاز البرامج والمشاريع المسطرة. إذ تعتمد المبادرة على نهج مبادئ الشفافية، و الحكامة
الجيدة، و الديمقراطية التشاركية، من خلال توفير مجموعة من الأجهزة و الآليات المؤسساتية التي تتوزع بين ما هو مركزي، و تجدر الإشارة هنا إلى "اللجنة الإستراتيجية للتنمية البشرية" و "لجنة قيادة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"، و ما هو محلي إذ تم إحداث لجنة محلية للتنمية البشرية، ثم على الصعيد الإقليمي، فقد أحدثت لجنة إقليمية يرأسها العامل، أما على المستوى الجهوي، فيسهر الوالي على "اللجنة الجهوية للتنمية البشرية"، هذا بالإضافة إلى إحداث مرصد وطني للتنمية البشرية.
إن الحديث عن الحكامة الجيدة و التنمية المحلية يبقى مرتبطا أساسا بمدى العلاقة التي تربط بعضهما البعض، على أساس أن التنمية المحلية لا يمكن أن تتأسس إلا إذا قامت على مجموعة من المبادئ على رأسها مرتكزات الحكامة الجيدة. فالحكامة أو الحكم الرشيد، هي الضامن لتحويل النمو الاقتصادي
و الاجتماعي و الثقافي و حتى الإداري إلى تنمية مستدامة و إلى أبعد من
ذلك، إلى ما أصبح يصطلح عليه اليوم بالتنمية الإنسانية.
إن الحكامة تبقى إستراتيجية جزئية حتمية من إستراتيجية أعم و أشمل، هي الإستراتيجية التنموية المستدامة بكل أبعادها، حيث تشكل كل هذه الأبعاد كلا متكاملا تتداخل عناصره و تترابط محاوره، و تتشابك مكوناته في عمليات متبادلة منسجمة تسعى إلى تحقيق المبادرة.
إذا كانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إستراتيجية و خيارا وطنيا من أجل حل المعضلة الاجتماعية و النهوض بمقومات التنمية المحلية ، فإلى أي حد استطاعت هذه المبادرة من خلال تطبيقاتها و انجازاتها خلخلة مؤشرات التنمية المحلية على صعيد إقليم آسفي؟ و ما هي أهم الخلاصات التي يمكن استنتاجها من خلال هذه التجربة التي تعدت فترتها أربع سنوات بقليل؟ و ما هي أهم العراقيل التي واجهت تطبيق مخططات هذه المبادرة في ظل مجموعة من الإكراهات الإدارية و المالية و البشرية؟
هذا ما حاولنا الإجابة عنه من خلال الفصل الثاني : "مساهمة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في تحقيق التنمية المحلية من خلال مؤشرات الإنجاز"
فقد بلغت حصيلة برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلى حدود سنة 2008 ما مجموعه 535 مشروعا، استفاد منها ما يقارب 344 ألف مستفيد بكلفة إجمالية بلغت 289.189.982,00 مساهمة المبادرة منها بلغت 182.050.000,00 أي بنسبة 63% من تمويل المبادرة على صعيد إقليم آسفي.
و تجلت قيمة المشاريع المنجزة في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية محليا في:
1- من حيث قيمة الاعتمادات المرصودة، إذ بلغت الكلفة الإجمالية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية على مستوى إقليم آسفي ما مجموعه 289.189.982.00 توزعت على برامج المبادرة الأربعة بنسب متفاوتة. نسبة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بلغت 63% من مجموع الكلفة المالية للمبادرة مقابل مساهمة الشركاء المحددة في 37%.
فمن خلال الأرقام يتبين أن الاعتمادات المرصودة لبرامج المبادرة اختلفت باختلاف طبيعة المشاريع التي تعتمدها هذه البرامج، و يبقى برنامج محاربة الإقصاء الاجتماعي أول البرامج المستفيدة من حيث الاعتمادات المالية المرصودة، يليه البرنامج الأفقي. و هذا راجع بالضرورة إلى:
- العوز الذي يعرفه المجتمع في هذا الإطار، نظرا لارتفاع عدد الأشخاص الذين يعانون من الإقصاء الاجتماعي،
- الصعوبات التي عرفتها البرامج الأخرى و خصوصا عدم استيعاب فلسفة المبادرة منذ الوهلة الأولى،
- فشل بعض المشاريع الراجع بالأساس إلى السرعة في التصور و الانجاز،
- عدم إعطاء مسألة التدبير الأهمية التي تستحق،
- حمل مجموعة من المشاريع من طرف بعض الجمعيات الحديثة العهد و التي ينقص القائمين على شؤونها التكوين، بالإضافة إلى تكرار المشاريع و قلة الابتكار.
بخلاف البرنامج الأفقي و كذلك البرنامج محاربة الإقصاء الاجتماعي الذي انكب أساسا حول حل المعضلة الاجتماعية لمجموعة من الأشخاص عبر تمويل و تشييد و تأهيل البنيات التحتية الأساسية و تشجيع الأنشطة المدرة للدخل و المواكبة الاجتماعية.
2- من حيث المشاريع و عدد المستفيدين: فقد تفاوتت نسب المشاريع المنجزة على طول سنوات المبادرة انطلاقا من 2005 إلى حدود 2008، إذ احتلت بذلك المشاريع المنبثقة عن البرنامج الأفقي الصدارة ب 224 مشروعا، في حين تجسدت مشاريع برنامج محاربة الفقر في 119 مشروعا، و برنامج محاربة الإقصاء الاجتماعي في 101 مشروعا و برنامج محاربة الهشاشة في 91 مشروعا، و بالتالي فقد قدرت نسبة تمثيلية مشاريع البرنامج الأفقي ب 41.86%، مقارنة مع البرنامج العمودي الذي يبقى ممثلا بنسبة 58.14% بمجموع مشاريع بلغ 311 مشروعا، إلا أنه يمكن القول أن نسبة 41.86% هي نسبة مرتفعة بالمقارنة مع نسبة انجاز مشاريع البرامج الأخرى مما يبين مدى اهتمام المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بالبرنامج الأفقي.
و مقارنة بين البرامج فيما يخص عدد المستفيدين، يأتي برنامج محاربة الإقصاء في المرتبة الأولى من حيث عدد المستفيدين بنسبة 39.76% يليه البرنامج الأفقي بنسبة 33.07% ثم برنامج محاربة الفقر ب 20.74% ثم برنامج محاربة الهشاشة ب 6.39% .
إن النتيجة التي آلت إليها المبادرة محليا ما هي إلا صورة مصغرة لما تعرفه المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وطنيا، إذ أن الشيء نفسه يسري على نتائجها فيما يخص عدد المشاريع المنجزة و حتى بالنسبة لعدد المستفيدين، إذ يبقى البرنامج الأفقي ذا مكانة كبيرة ضمن المشاريع الأخرى و يبقى البرنامج الأول من حيث الأهمية.
إن خلخلة مؤشر التنمية البشرية من شأنه أن يجعلنا أن نتساءل حول طبيعة
و قدرة تلك المدخلات التي من خلالها يمكن أن نستنبط مدى تفاعل هذه المكونات و تأثرها إزاء التغيير الذي سيطرأ عليها من قبل تلك المؤثرات الخارجية، و ما المشاريع المنضوية تحت لواء المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلا مؤثرا و فاعلا و مغيرا لواقع اجتماعي تعيشه مجموعة من السكان على أرض معينة. ساكنة تعاني من كل مشاكل الفقر، و التهميش، و البطالة، و ضعف التعليم، ومن نقص حاد في البنى التحتية، و من الأمية ...الخ
كل هذه المشاكل ، و من خلال الأرقام و الإحصاءات التي استخدمناها كأرضية و مادة مختبرية، من شأنها أن ستساعدنا على فهم واقع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على مستوى إقليم آسفي، و رغم أنه لم يحن الوقت المحدد لإعطاء التقييم الإجمالي لحصيلة المبادرة، لكن يمكننا أن نستشف الإرهاصات الأولية للتغيير من خلال المشاريع المنجزة و قدرتها على سد مكامن الخلل المحددة أساسا في أهداف المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، المتمثلة في دعم المشاريع المدرة للدخل، تحسين ظروف الولوج إلى الخدمات و البنى التحتية الأساسية، دعم الأشخاص ذوي العوز الشديد، التنشيط السوسيوثقافي و الرياضي، تنمية القدرات المحلية و الحكامة الجيدة.
إن تسجيل 385 مشروعا تستهدف تحقيق الأهداف السابقة الذكر من ضمن 535 مشروع كحصيلة ثلاث سنوات، يبقى مشجعا إلى حد ما، إذ تعتبر نسبة 71.96% من المشاريع ذات الوقع الكبير و المتمركز على أهداف المبادرة بالشيء الايجابي، لكن طبيعة المشاريع من شأنها أن تنقص من قيمة هذا
الوقع، على اعتبار تواجد مجموعة من المشاريع ذات الوقع الاجتماعي
و الاقتصادي الضعيف و الراجع بالأساس إلى عدم اختيار المواقع و المستهدفين بدقة، كما أن توزيعها يبقى عشوائيا الشيء الذي سيؤثر سلبا على مردودية
و فعالية تلك المشاريع.
إن حصيلة المبادرة، لم تعبر عما كان منتظرا، إذ لم تأت مطابقة لهم المشاريع، و بالتالي فبرامجها، محليا أو وطنيا، جاءت مجانبة للطموح الوطني المتجسد في القضاء على العجز الاجتماعي رغم بعض الإرهاصات الأولية للتغيير التي عرفتها مجالات التدخل، مما ينتج عنه ضعف كمي و نوعي في البرامج الاجتماعية المعتمدة، نقص في احترام الأهداف المسطرة، ضعف في التجسيد الفعلي و العملي لمنطق الحكامة في أدوار الأطراف المشكلة لها، أ كانت أطرافا عمومية رسمية، أو أطرافا غير رسمية كالقطاع الخاص أو المجتمع المدني، و استمرارية ضعف تكريس ثقافة الشراكة، و هزالة في عمليات التكوين و تقوية الكفاءات.
مع وجود هذه النقاط السلبية، لا يمكننا أن نتجاهل النقاط الإيجابية التي أتت بها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. إذ استطاعت هذه الأخيرة خلق دينامية جديدة بين الأطراف المتدخلة، و أن تبرز قدرتها على اختيار المشاريع و تتبعها
و تقييمها من خلال المشاركة الفعلية للسكان، و ترسيخ مبدأ تحمل المسؤولية
و الاعتماد على النفس لدى الساكنة بفضل الأنشطة المدرة
للدخل، و تحسن مستوى الولوج إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية.
جاءت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كهندسة اجتماعية حقيقية تتجسد من خلال تحديد طرق التدخل مع اعتماد طرق تفضي إلى نتائج قوية و استخدام وسائل غير مكلفة، و تكوين الموارد البشرية المؤهلة و السهر على سير
المبادرة، و وضع آليات مراقبة و رصد لظواهر الفقر و الإقصاء بكل موضوعية و يقظة و شفافية، و اعتبار انطلاقتها فرصة مواتية للتصالح مع الذات
و مع المجتمع مع الاعتماد على مفاهيم جديدة كالمقاربة التشاركية و المقاربة المندمجة، التشخيص التشاركي التقييم، الافتحاص و المراقبة...هذا بالإضافة إلى انفتاح الإدارة على جمعيات و هيئات المجتمع المدني و اعتبارها شريكا أساسيا يجب استشارته و العمل بجانبه. هذا في الوقت الذي تعتبر فيه المبادرة برنامجا نابعا من الإرادة، الشيء الذي يظهر جليا غياب الحكومة و فشلها في النهوض بالملف الاجتماعي و تأخر الفاعلين السياسيين في الأخذ بزمام الأمور، و الارتكان إلى الوراء في انتظار المبادرات الملكية في حين اقتصر دورهم على التنفيذ.
على العموم، يمكن القول أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هي مبادرة تشاركية و منفتحة على جميع المواطنين مصدرها الإرادة الملكية من أجل النهوض بالمستوى المعيشي للمغاربة و القضاء على براثين الفقر و الرفع من مؤشر التنمية البشرية بالمغرب، معتمدة في ذلك على كفاءات بشرية مؤهلة خضعت و لازالت تخضع لتكوينات مستمرة، بالإضافة إلى نهج سياسة الانتقائية في المشاريع و الالتقائية بين القطاعات.
إن الحديث عن خصائص المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لا ينف وجود معيقات تعيق سير و تنفيذ برامجها، و هذا ما حدا بصاحب الجلالة في خطاب العرش ليوم 30 يوليوز 2009 أن ينبه الى وجود تلك الاكراهات.
عند تقديمنا لأهم الإكراهات التي واجهت تطبيق المبادرة الوطنية للتنمية
البشرية، ارتأينا أن نقسمها إلى إكراهات مالية، إدارية و أخرى فلسفية.
• اكراهات فلسفية تتمثل أساسا في عدم استيعاب الفلسفة الجديدة خصوصا المجتمع المدني، و يرجع الأمر إلى ضعف الدور الإعلامي الذي يراد منه إطلاع الجميع بفحوى المبادرة، و ببرامجها و فلسفتها، و عدم اقتصاره على الهيئات و اللجان المتصلة مباشرة بالمبادرة، أو الباحثين الجامعيين، الشيء الذي سيجعل المبادرة برنامجا تفييئيا، في حين أنه برنامج منفتح على كل طاقات المجتمع.
• اكراهات إدارية تتمثل أساسا في الثقل البيروقراطي، مع الدور الذي أعطي للإدارة الترابية في الإشراف على برامجها و هذا راجع بالأساس إلى جدة البرنامج من جهة و كذلك إلى قدرة الإدارة على تدبير مالية المبادرة، كما ارتبط هذا الثقل بالإشكاليات التي طرحتها فلسفة و تطبيق المقاربة التشاركية مع العلاقة التي انتظمت بين المجتمع المدني و ممثلي السلطة المركزية، و بالطريقة التي دبرت بها المبادرة خاصة على المستوى المركزي. كما يسجل نقص في الموارد البشرية، خصوصا أطر بعض القطاعات كالصحة، و يمكن أن نسجل هزالة التكوينات المقدمة، لا من حيث وثيرتها المتثاقلة و سيرورتها المنقطعة، على اعتبار أن التكوينات الموسمية تبقى عديمة الجدوى و ذات محتوى فارغ، بالمقارنة مع طبيعة
و حجم و قوة برامج المبادرة.
و إذا كانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تعتمد في إستراتيجيتها على مجموعة من الآليات و المقاربات أهمها المقاربة التشاركية و المقاربة المندمجة، فإن النسيج الجمعوي، باعتباره شريكا أساسيا في هذه العملية التنموية، يعاني من عدة مشاكل تشكل عائقا أمام التنمية البشرية و التنمية المحلية، هذه العراقيل تتمثل في كثرة الجمعيات و تناسلها بقوة غريبة، السرعة في التصور و الانجاز، مما يؤدي إلى تشابه الأفكار و البرامج، و غياب التجديد و الابتكار، و صعوبة تكييف ما تحقق من مشاريع المبادرة مع حاجيات المؤشر الوطني للتنمية البشرية، كما أن تعدد المشاريع و تنوعها يصعب من مهمة قياسها كيفيا و بطريقة واضحة المعالم، سواء من حيث تأصيل المقاربة التشاركية، أو من حيث التأثير الايجابي على مسارات إنتاج التنمية المحلية.
و في إطار مقاربات الحكامة الجيدة لتطوير آليات المبادرة، و خصوصا المقاربتين السالفتي الذكر، يمكن تسجيل عدم اعتماد ترتيبات دقيقة و واضحة لالتقائية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مع البرامج القطاعية سواء من ناحية التكاملية المالية أو من حيث التوظيف الايجابي للمبادرة بوصفها رافعة للمردودية الاجتماعية. و كذلك غياب التنسيق بين الجهات المهتمة على اعتبار التنمية وحدة متكاملة لا تقبل التجزيء، مما يؤدي إلى عدم ضمان استمرارية البرامج المسطرة مسبقا و التي هي من أهم مميزات المبادرة في حد ذاتها.
• اكراهات مالية: فإذا كان البحث العلمي عاملا أساسيا في التنمية البشرية و يلعب دورا مهما في النهوض بها، فإن انغلاقه و عدم استفادته من ميزانية مريحة، يؤدي إلى محدودية مردوديته، لتبقى ضئيلة بالمقارنة مع ما هو منتظر منه في هذا الإطار، هذا بالإضافة إلى ما تعرفه الجماعات المحلية، قروية أو حضرية من نقص مهول في ميزانيتها، إذ تصبح عاجزة عن سد احتياجاتها فيما يخص الشق المتعلق بالتجهيز و الاستثمار و حتى التسيير، فبالأحرى المساهمة في برامج التنمية البشرية و التي تصل إلى 20%، الشيء الذي يدفعنا إلى التساؤل عن الدور الذي قد تلعبه في غياب أدنى الوسائل و الإمكانيات المادية التي تؤهلها إلى ذلك، في الوقت الذي تعرف فيه المالية المحلية مجموعة من الاختلالات، سواء الجبائية منها أو البشرية أو القانونية.
و بالإضافة إلى هذه الاكراهات، فقد تظهر إكراهات كبيرة يصعب معها إيجاد حلول آنية، و هذا ما أقره التقرير الوطني للخمسينية حين أكد تواجد مجموعة من الإكراهات تتمثل في عدم التمكن من التحكم في أجندة
الإصلاحات، الاستسلام للاكراهات الظرفية، عدم بلوغ السقف المطلوب و الوثيرة الكافية في العمل الإصلاحي، عدم تطبيق القوانين و الاتفاقيات الملتزم
بها، و حدوث أزمة خارجية أو داخلية حادة، الشيء الذي يستدعي اعتماد مجموعة من التدابير الاحترازية لتجنب الوقوع في هذه المشاكل.
و إذا كانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تعاني من مجموعة من الاكراهات، فلابد من البحث عن حلول واقعية. و لعل الخطاب الملكي ليوم 30يوليوز 2009، يعد منبها إلى تلك الحلول المتمثلة في:
- أولا: توخي المزيد من النجاعة و المكتسبات، و لن يتأتى ذلك إلا بمراعاة نوعية و استمرارية المشاريع، و الحرص على التقائيتها مع مختلف البرامج القطاعية، و مخططات التنمية الجماعية؛
- ثانيا: ضرورة إخضاع مشاريعها للتقييم و المراقبة، و الأخذ بتوصيات المرصد الوطني للتنمية البشرية؛
- ثالثا: التركيز على المشاريع الصغرى الموفرة لفرص الشغل و للدخل
القار، لاسيما في الظرفية الاقتصادية الصعبة.
هذا في الوقت الذي تعتبر فيه الحكامة الجيدة، سواء كانت إدارية أو مالية، بمبادئها التخطيط، الرؤية الإستراتيجية، المحاسبة، المساءلة، حكم القانون، المساواة، الشفافية، التنظيم و المراقبة سواء كانت قبلية أو آنية أو بعدية بمثابة ركيزة أساسية لإنجاح المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.إن إقرارنا بالدور الكبير الذي تلعبه الحكامة الجيدة من أجل إنجاح المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، من شأنه أن يتماشى في الأصل مع إعلان البنك الدولي و دعمه للمبادرة، و اعتباره أن المبادرة محكومة بالنجاح إذا تمت مراعاة مبدأين اثنين أساسيين هما الحكامة الجيدة و الشفافية التي هي جزء من الحكامة.
و تشكل التنمية المحلية المندمجة و التشاركية، الإطار الأمثل لبلورة السياسات الاجتماعية و الاقتصادية الوطنية بصفة عامة، و لعل هذا راجع بالأساس إلى العديد من الاعتبارات، منها التدبير المركزي و عدم تمكنه من مقاربة مختلف العمليات التنموية طبقا للخصوصيات الجهوية المحلية، بالإضافة إلى ما يوفره هذا الأسلوب من إطار ديمقراطي يسمح لجميع أطراف المجتمع المساهمة في العملية التنموية، في الوقت الذي تبقى فيه الالتقائية كآلية مهمة من أجل تفعيل المبادرة و من أبرز تجسيدات الحكامة المحلية الجيدة.
و أمام هذه الحلول، يبقى المواطن عنصرا مهما في العملية التنموية، و المواطنة تعتبر سبيلا من سبل إنجاح المبادرة من أجل تنمية بشرية ملؤها التكامل و التضامن و التعاون.
و تبقى العلاقة بين المواطنة و التنمية البشرية علاقة متينة، على أساس أن بناء الوطن هو قوام المواطنة، و التنمية البشرية هي بناء الوطن بالمعنى
الشامل، فكلما كانت المواطنة أصيلة و قوية، كان إسهام المواطن في التنمية البشرية فاعلا و مؤثرا، و بالتالي حينما نؤكد على أخلاقيات المواطنة، نكون في الوقت نفسه نؤكد على ترسيخ أسس التنمية البشرية التي تهدف إلى تحقيق التقدم
و الرفاهية لجميع أفراد المجتمع.
-------------------
ليست هناك تعليقات