المعايير الدولية للعقد وآثارها (القانون الواجب التطبيق على الصفة الدولية للعقد [مقدمة] يشكل العقد ، باعتباره توافق إرادتين أو أكثر ع...
المعايير الدولية للعقد وآثارها (القانون الواجب التطبيق على الصفة الدولية للعقد
[مقدمة]
يشكل العقد ، باعتباره توافق إرادتين أو أكثر علي إحداث اثر يرتبه القانون ، احد أهم مصادر الالتزام
وتتعدد أنواع العقود بتعدد الأحكام التي ترد عليها ؛ بحيث تنقسم إلي عقود مسماة وأخري غير مسماة كما تنقسم إلى عقود رضائية وعقود شكلية.
ويمكن تقسيمها بحسب القانون الذي يحكم المنازعات الناشئة عنها إلى عقود داخلية أو وطنية ، يحكمها القانون الداخلي وعقود دولية يمكن ان يثور بشأنها تنازع القوانين ، أي أنها تثير مسالة القانون الواجب التطبيق .
وقد كان تحديد دولية العقد ولا زال مثار جدل فقهي حاد ومشوق في إطار القانون الدولي الخاص ، إلي درجة أن بعض الفقه نادي بضرورة تجاوز مسالة التحديد ، لما تثيره من خلافات مردها بالأساس المنهج الذي ينطلق منه كل باحث وحسب نظامه القانوني الخاص
ومن اجل إماطة المعوقات الآنفة الذكر لابد من البحث عن معيار أو معايير لتحديد الصفة الدولية للعقود الدولية وما يتطلبه ذالك من مرونة في استخدام المصطلحات ، من خلال استعمال مصطلح العقد الدولي بدل العقد التجاري الدولي لان بعض الأنظمة القانونية لا تميز بين القانون العام والخاص ؛ فما بالك بالتمييز بين التجاري والمدني ، من اجل ذالك فان جل الفقه يميل الي تسمية القانون الذي يحكم العلاقات الناشئة عن العقود الدولية بقانون التجارة الدولية بدل القانون التجاري الدولي.
وتبدوا أهمية إضفاء الصفة الدولية علي العقد بارزة في كون هذه الصفة لازمة لإعمال قواعد القانون الدولي الخاص وفي كون مسالة التكييف العلاقة الدولية بالصفة الدولية هي مسالة تكييف أولية سابقة وبالتالي حاسمة في تحديد القانون الواجب التطبيق علي النزاعات التي قد تنشا عن إبرام او تنفيذ عقود التجارة الدولية، وتفاديا للمعوقات الناتجة عن المنهج التنازعي للقانون الدولي الخاص فان الفقه نادي بخلق قواعد موحدة وموضوعية لحكم النشاط التجاري الدولي بغض النظر عن النظام الاقتصادي او القانوني الذي يسود دولة من الدول .
على أن الحقيقة السابقة المتمثلة في ان قانون لتجارة الدولية بدا ينسج قواعده الخاصة لا تكفي للاعتراف له بالاستقلال التام عن القانون الدولي الخاص ذالك ان الأخير يعتمد المنهج التنازعي لإسناد الرابطة الي قانون موضوعي يحكمها ، وهو ما حدا بالعميد JAN MARQE MESEROH إلي القول بان" القانون الدولي الخاص هو قانون عائم وقانون التجارة الدولية هو قانون حي ".
وتثير مسالة دولية العقد مجموعة من الإشكاليات القانونية تتمحور حول الصفة الدولية للعقد وأساسها، أي متى نكون بصدد عقد دولي ؟ هل يوجد معيار حاسم يمكن الركون إليه لاعتبار العلاقة التعاقددبة دولية؟ ثم ما هو القانون الواجب التطبيق في حال وجود عقد دولي ؟ هل تثار مسالة التنازع وهل يمكن كسر قواعد التنازع وتطويعها ؟
إن البحث في هذه الإشكاليات وفق التمهيد السالف يقود الي دراستها وفق التصميم التالي :
المبحث الأول: مفهوم العقد الدولي
المطلب الأول : المعايير الفقهية لتحديد دولية العقد
الفقرة الاولي : المعيار القانوني
الفقرة الثانية :المعيار الاقتصادي
المطلب الثاني: تأرجح الاجتهاد القضائي بين التطبيق المتناوب والتطبيق الجامع للمعايير
المطلب الثالث : تقدير موقف الاجتهاد القضائي
المبحث الثاني القانون: القانون الواجب التطبيق على العقد الدول
المطلب الأول: معايير تحديد قانون العقد الدولي
الفقرة الأولى: خضوع العقد الدولي لقانون الإرادة
الفقرة الثانية : الإسناد الجامد والإسناد المرن للرابطة العقدية
المطلب الثاني: تعطيل قواعد الإسناد.
فقرة أولى: الدفع بالنظام العام.
فقرة ثانية: الدفع بالغش نحو القانون
المبحث الأول: مفهوم العقد الدولي
إن إضفاء الصفة الدولية علي العقد يتطلب، لتجاوز الخلافات الفقهية البحث عن معيار موضوعي لوصف العقد بالصفة الدولية
ولتحديد الصفة الدولية توجد معايير فقهية تتمثل في كل من المعيارين القانوني والاقتصادي وقد تأرجح الاجتهاد القضائي بين الأخذ بأحدهما أو المزج بينهما من خلال التطبيق الجامع للمعيارين ، مما يجعل تقدير هذه المعايير والمواقف بالغ الأهمية للحكم بالصفة التعاقدية الدولية بما يقتضي دراسة هذا المبحث من خلال المطالب التالية:
المطلب الأول: المعياران القانوني والاقتصادي
لقد كشف الفقه التقليدي عن معيارين أساسيين لإضفاء الصفة الدولية علي العقد تمهيدا لإعمال قواعد القانون الدولي الخاص، يتمثلان في كل من المعيار القانوني(الفقرة الأولي) والمعيار الاقتصادي(الفقرة الثانية )
الفقرة الأولي: المعيار القانوني
في تكييفه للرابطة العقدية، ذهب جانب من الفقه إلي اعتبار العقد الدولي هو ذالك العقد الذي اتصلت عناصره القانونية بأكثر من نظام قانوني واحد
وهكذا يعتد هذا التيار بالرابطة العقدية ومدي تطرق الصفة الأجنبية لأحد عناصرها ، للحكم بدوليتها
وعلي سبيل المثال – وفقا لهذا المعيار- يعتبر عقدا دوليا ذالك المبرم في فرنسا بين فرنسي ومغربي مقيم في فرنسا؛ لاتصال عنصر الجنسية بالبلدين
وقد انقسم الفقه- المؤيد للمعيار القانوني لدولية العقد – بصدد تحديد العنصر أو العناصر الفعالة او المؤثرة والتي بتطرق الصفة الأجنبية لها نكون بصدد عقد دولي الي اتجاهين فقهيين :
الاتجاه الأول : ساوى بين العناصر القانونية للرابطة العقدية واتجه للقول بان تطرق العنصر الأجنبي يصير العقد دوليا ، سواء كان هذا التطرق منصبا علي أطراف العقد أو موضوعه أو واقعته المنشأة ...
وقد قوبل هذا الاتجاه بمجموعة من المآخذ منها اتسامه بالجمود وعدم الكفاية ، ذالك ان إعمال قواعد القانون الدولي الخاص لمجرد توافر عنصر أجنبي في الرابطة العقدية بغض النظر عن أهمية ذلك العنصر وتأثيره لا يحقق الأمان القانوني او العدالة ، ومن شانه أن يثير كثيرا من التنازع بين القوانين .
ولعل جمود هذا الاتجاه كان السبب في بروز الاتجاه الثاني في المعيار القانوني .
الاتجاه الثاني: انطلق في تحديده لدولية العقد على أساس التمييز بين العناصر القانونية المؤثرة والفعالة في تحديد الصفة الدولية للعقد وبين العناصر المحايدة في تحديد هذه الصفة.
فبالنسبة للعناصر غير الفاعلة كالجنسية فإن تطرق الصفة الأجنبية لها لا يكفي للحكم بدولية العقد، وانطلاقا من هذا الاتجاه لا يعتبر دوليا ذلك العقد الذي يقوم بمقتضاه أجنبي مقيم بالمغرب بالتعاقد لاستخدامه الشخصي وبالتالي لا يثير هذا العقد مسالة تنازع القوانين؛ وإنما يخضع في تكييفه وتنظيمه للقضاء ولأحكام القانون المغربي .
وقد تبنت اتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بالبيع الدولي للبضائع (افيينا1984) هذا المنحي بنصها على انه " لا تؤخذ بعين الاعتبار جنسية الأطراف ولا الصفة المدنية أو التجارية لهم ولا للعقد في تحديد تطبيق هذه الاتفاقية" ونفس النهج تبنته اتفاقية التحكيم العربية المبرمة في عمان 1978 واتفاقية هامبورغ بشان عقود النقل البحري واتفاقية لاهاي بشان البيع الدولي للأشياء المنقولة المادية واتفاقية جينيف بشان التمثيل في البيع الدولي للبضائع وليست رابطة الجنسية وحدها غير فاعلة في تحديد الصفة الدولية وإنما ينطبق نفس الحكم على محل الإبرام ، الذي وإن كان مؤثرا عند إسناد العقود من حيث الشكل وفقا لمبدأ " خضوع شكل العقد لمحل إبرامه" إلا انه لا ينهض أساسا لإضفاء الصفة الدولية علي العقد في كل الحالات
فقد يبرم العقد في دولة أجنبية بشكل عرضي أو لمحض الصدفة مما يجعل محل الإبرام غير مؤثر في كل الأحوال .
أما العناصر المؤثرة - حسب هذا الاتجاه - فهي محل التنفيذ وكذالك موطن الأطراف ، فكلاهما عنصر فاعل في وسم العلاقة بالصفة الدولية خصوصا في عقود المعاملات المالية وعقود التبادل التجاري ؛ وهو ما نصت عليه عدة اتفاقيات دولية منها اتفاقية افيينا للبيع الدولي للبضائع واتفاقية لاهاي سنة1964 بشان البيع الدولي للأشياء المنقولة المادية واتفاقية جنيف بشان التمثيل في البيع الدولي للبضائع ...
ويلاحظ أن المعيار القانوني باتجاهيه وان كان استطاع تحديد إطار للعقد الدولي من خلال إثارة الصفة الأجنبية وعناصرها إلا انه ظل قاصر لأنه اغفل جوانب أخرى مهمة لتحديد الصفة الدولية ، مما دفع إلي البحث عن معايير ومؤشرات أخري من أهمها المعيار الاقتصادي
الفقرة الثانية: المعيار الاقتصادي
دفعت نواقص المعيار القانوني لدولية العقد إلي البحث عن بدائل أخرى لوسم الرابطة العقدية بالطابع الدولي ، وهكذا برز المعيار الاقتصادي المستمد من نظرية المحامي مارترmarter التي شبه فيها حركة التجارة الدولية بحالة المد والجزر ؛ أي تحرك السلع والأموال لتؤثر في اقتصاديات متعددة
وهكذا يقوم المعيار الاقتصادي على فكرة مؤداها انه كلما كان من شان الرابطة العقدية أن تؤثر أو تمس بمصالح التجارة الدولية فإننا نكون بصدد عقد دولي
ويستمد المعيار الاقتصادي أساسه القانوني بحسب بعض الفقه من المبادئ التي يقوم عليها والمتمثلة في :
* تخطيه الحدود الجغرافية
* مساسه بمصالح التجارة الدولية
*- تجاوز النطاق الاقتصادي الداخلي
ومن محاسن المعيار الاقتصادي أن إعماله يؤدي حتما إلى تطبيق المعيار القانوني في نفس الوقت ؛ ذالك ان الرابطة العقدية التي يترتب عليها انتقال الأموال من دولة لأخرى والتي تتعلق بمصالح التجارة الدولية هي بالضرورة متصلة لأكثر من نظام قانوني واحد وهو ما يفيد توافر المعيار القانوني
وبالعودة إلي التشريع المغربي نجده بتبني المفهوم الاقتصادي من خلال القانون 05/08 الملغي للباب الخامس من قانون المسطرة المدنية بنصه في المادة 324/40 علي انه " يعتبر دوليا، حسب مدلول هذا الفرع، التحكيم الذي يتعلق بمصالح التجارة الدولية..."
و نفس المسلك الذي سبق للجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري ان انتهجته
وبالرغم من ما تم تقديمه من أسانيد قانونية للمعيار الاقتصادي فانه ظلل ناقصا ولم يسلم من النقد لاعتبارات منها قيامه على فكرة اقتصادية لا قانونية وانه يعتمد عل موضوع العقد دون ظروفه كما انه معيار غامض وغير كاف ؛ فالتحديد الذي ساقه اقرب إلى كونه مؤشر لدولية العقد من كونه معيارا قابلا للإعمال في الواقع العملي مما يحتم تعضيد هذا المؤشر بمؤشرات أخري ليتسنى تحديد العقد الدولي .
ولعل النقد الذي قوبل به المعيار الاقتصادي هو الذي دعا إلى تجاوز المعايير الفقهية التقليدية والبحث في التطبيقات القضائية عن معيار أكثر دقة وأكثر قابلية للصمود في وجه التغيرات التي تطال التجارة الدولية.
المطلب الثاني: موقف الاجتهاد القضائي من دولية العقد
إن البحث في الاجتهاد القضائي يبدوا بالغ الأهمية لان التشريع لم يحدد الصفة الدولية بجلاء ولان الفقه انقسم بأنها بشكل حاد مما يعطي للتطبيقات القضائية أهمية مضاعفة
وبإلقاء نظرة علي الصيرورة التاريخية لموقف القضاء نجده متأرجحا بين التطبيق المتناوب للمعيارين القانوني والاقتصادي (مطلب أول ) ثم التطبيق الجامع لهما (فقرة ثانية )
الفقرة لأولى: التطبيق المتناوب للمعيارين
لقد ساير الاجتهاد القضائي مختلف الاتجاهات الفقهية التي تعرضت لإشكالية العقد الدولي وذالك من خلال تطبيقها بشكل مباشر علي الوقائع المعروضة علي القضاء
وهكذا سنحت الفرصة للقضاء لتطبيق كل من المعيار القانوني والاقتصادي بشكل متناوب
فبالنسبة للتطبيق القضائي للمعيار القانوني نأخذ الحكم الصادر عن محكمة Amiens الصادر20/05/1970 بشان العقود المبرمة بين فرنسيين في الجزائر –حين كانت جزءا من فرنسا – فقد صرحت المحكمة بان تغير الوضع بعد استقلال الجزائر يجعل العقود دولية يجري تنفيذها في الخارج ،مما يبرر إعمال قاعدة التنازع التي تقضي بإخضاعها لقانون الإرادة ".
من خلال هذا الحكم والنقض المساند له الصادر 16/10/1973 فان القضاء اخذ بالمعيار القانوني – كما سبق تقديمه- مع أضافه مهمة وهي تغير الظروف وما ينتج عنه من إمكانية إعادة تكييف العلاقة العقدية وهو معطي مهم مؤداه أن تطرق الصفة الدولية للعقد في مرحلة لاحقة علي إبرامه ، يتعين معه علي المحكمة إسناد الرابطة العقدية للقانون الذي يختاره المتعاقدون ، عملا بقواعد تنازع القوانين .
وإذا كانت بعض الأحكام والقرارات القضائية انتصرت للمعيار القانوني في تكييف العقد الدولي فان جانبا من القضاء وجد في المعيار الاقتصادي ضالته، فقد طبقت محكمة النقض الفرنسية المعيار الاقتصادي في قرارها الصادر14/20/1930 والذي جاء في احدي حيثياته " .يعتبر عقدا دوليا ذالك العقد الذي يتعلق بمصالح التجارة الدولية والذي ينطوي علي رابطة تتجاوز لاقتصاد الداخلي لدولة معينة "
من خلال هذا القرار نجد أن محكمة النقض الفرنسية طبقت المعيار الاقتصادي الذي سبق أن بينا أعلاه مبرزة خصائصه السابقة
والمسار الذي ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية يعطي للعقد الدولي تعريفا ماديا واقتصاديا ، وهو ما نتج عنه أن المحاكم أصبحت تعتبر العقد دوليا عندما يثير عناصر التجارة الدولية وهو يكون كذالك عندما يؤدي إلي تحرك الأموال والخدمات خارج الحدود .
ولكن من خلال السلبيات التي كشف عنها التطبيق المتناوب من طرف القضاء لكل من المعيار القانوني والاقتصادي نجد أن القضاء وقع في نفس الانتقادات التي وقع فيها الفقه مما حدي بالأخير إلى إعادة النظر في الموقف السابق من خلال المزج بين المعيارين القانوني والاقتصادي .
الفقرة الثانية: التطبيق الجامع للمعيارين القانوني والاقتصادي
أدت التطورات المتلاحقة في ميدان التجارة الدولية إلي زيادة المعاملات التجارية الدولية التي يشكل العقد أهم تجلياتها وقد أسهم القضاء بشكل فعال في إغناء ميدان التجارة الدولية بالعديد من مبادئه .
وهكذا فان القضاء لم يعد يكتفي عند تقرير دولية العقود – بالتحقق من وجود عنصر أجنبي في الرابطة العقدية (المعيار القانوني) وإنما يحرص علي التأكد من تعلق الأمر بمصالح التجارة الدولية (المعيار الاقتصادي) ويترتب علي هذا المسلك بالضرورة التضييق من معيار دولية العقود بحيث لا يؤدي مجرد تضمنها لعنصر أجنبي إلي إتباع منهج القانون الدولي الخاص .
وتفضي مسالة الجمع بين المعيارين القانوني والاقتصادي إلي إعمال المعيار القانوني المضيق مع اغنائه بمؤشر اقتصادي .
وقد تبنت محكمة النقض الفرنسية هذا المعني في قرارها الصادر في 4 يوليو 1973 ، والذي قضت فيه بدولية العقد " وبالتالي استقلال شرط التحكيم المدرج به وهو ما سبق ان أشار إليه الحكم المطعون فيه وذالك لان العقد المذكور ابرم في هولندا بين شركة هولندية وشخص فرنسي الجنسية أصبح – بمقتضى العقد- وكيلا للشركة المذكورة مما يجيز له تسويق منتجاتها في فرنسا
وقد استندت المحكمة لتأكيد دولية العقد علي المعيار القانوني الذي يفيد اتصال الرابطة العقدية بأكثر من نظام قانوني واحد (فرنسا هولندا ) كما استندت إلي المعيار الاقتصادي في نفس القرار حيث جاء فيه " تهدف هذه الرابطة إلي تشجيع صادرات الشركة الهولندية إلي فرنسا ، وهو ما سيفضي إلي انتقال الأموال عبر الحدود و يمس علي هذا النحو بمصالح التجارة الدولية
إن التأمل في هذا القرار الذي يمثل عينة للعديد من القرارات القضائية المماثلة والتي اعتنق فيها القضاء المزج بين المعيارين القانوني والاقتصادي
وجدير بالذكر أن المشرع المغربي في القانون 05/08 عمد إلي المزج بين المعيارين، فبعد أن ورد في بداية الفصل327/40 أن التحكيم الدولي هو الذي يتصل بمصالح التجارة الدولية، فان نفس الفصل "...والذي يكون لأحد أطرافه على الأقل موطن أو مقر بالخارج.
يعتبر التحكيم دوليا إذا:
1 كان لأطراف اتفاق التحكيم وقت إبرام هذا الاتفاق مؤسسات في دول مختلفة؛
2 أو كان احد الأمكنة التالي بيانها واقعا خارج الدولة الموجودة بها مؤسسات الأطراف..."
ومن القرارات القضائية التي عمدت إلي الجمع بين المعيارين القانوني والاقتصادي القرار الصادر عن محكمة استئناف باريس في 26/10/1982 والذي جاء فيه " لقد انتهت المحكمة إلي أن العقد المبرم في السويد بين شركة سويدية وفرنسي تم بمقتضاه تخويل الأخير تسويق منتجات الشركة بفرنسا ، بوصفه وكيلا عنها ، واستندت المحكمة إلي المعيارين القانوني والاقتصادي .
وقد سايرت محكمة الاستئناف بتولوز في 26 أكتوبر 1982 نفس النهج حيث جاء في قرارها ا" إن العقد المبرم في الخارج بين شركة ايطالية ومواطن فرنسي وتم بمقتضاه توكيل هذا الشخص فان المحكمة ذهبت إلي القول بان اختلاف جنسية المتعاقدين وتعلق نطاق العقد بمصالح تجارية لدولتين كافية لإضفاء الصفة الدولية .
وهكذا رأى بعض الفقه بان توافر المعيارين القانوني والاقتصادي وتكاملهما هو الذي يفضي إلي إبراز ملامح العقد الدولي ، بما ترتبه هذه الصفة من أحكام بالغة الأهمية .
المطلب الثالث: تقدير موقف الاجتهاد القضائي
لاشك ان الطبيعة المرنة للاتجاه الموفق في تكييف العلاقة التعاقدية الدولية بأنها خليط من العناصر القانونية والمؤشرات الاقتصادية ، مكنته من الجمع بين صور مختلفة من العقود في مجال الحياة الخاصة الدولية كالعقود النموذجية وعقود نقل التكنولوجيا والتراخيص الصناعية وتمويل المشروعات وعقود تسليم المفاتيح الثقيلة B.O.T. وعقود السوق باليد وعقود المشروعات البترولية ... وكل هذه العقود فرضت علي المتعاملين وعلي التشريعات ومن ثم علي القضاء الاعتراف بعلوية العادات والأعراف التي يخلقها المتعاملون" التجار الدوليون "
كما أن خصوصيات هذه العقود وحداثتها تدعوا الفقه والقضاء إلي المرونة في التعامل معها، ذالك ان العقد الدولي أصبح اليوم يشكل العمود الفقري للاقتصاد العالمي من جهة ، كما أن كل عقد من عقود التجارة الدولية بدأ يستقل شيئا فشيئا بأحكامه الخاصة؛ ففي مسالة التنازع مثلا أصبح كل عقد أو مجموعة عقود يختص بأحكام خاصة عن سواه من العقود ويتم تداول الأبحاث بشان التنازع فيه ، مثلا القانون الواجب التطبيق علي المعاملات المصرفية الدولية والقانون الواجب التطبيق علي العقد الالكتروني والقانون الواجب التطبيق علي عقود الشغل الدولية... وأصبح كل علي حدة تخصص له دراسات مستقلة،كما أن بعض المفاهيم العقدية الدولية بدأت تأخذ مكانها موقعها في إطار العقود الدولية مما يحتم أخذها بعين الاعتبار ومن أهمها:
* تغير الظروف الاقتصادية
* شرط الاختصاص كبند مستقل لا يتأثر ببطلان العقد الأصلي
لذا فإننا نري ضرورة وجود ما يسميه بعض الفقه اليوم بالأداء المميز أو الرابطة الطبيعية والمعقولة في إسناد الصفة الدولية علي العقد .
فعلي سبيل المثال فان عقود نقل التكنولوجيا والعقود الالكترونية التي يكون محلها أموال منقولة معنوية معدة للنقل بين تاجرين أو أكثر لذا جرى العمل .
كل هذه المفاهيم الدولية فرضت التعامل معها بمصطلحات جديدة منها مفهوم العقود الطليقة وكان للعميد "باتي فول " قصب السبق في التنبؤ بهذه الظاهرة بقوله " إن شيوع استعمال هذه الصيغة النموذجية دفع إلي القول بان مظاهر الحياة القانونية خارج النطاق الحكومي في النمو الاقتصادي والاجتماعي الذي بدا عقب الثورة الصناعية وما افرزه التقدم العلمي الحديث من احتياجات قانونية جديدة لم يتمكن المشرع الحكومي من تلبيتها وقد ظهرت بوادرها في من خلال العقود النموذجية والاتفاقيات الجماعية والأعراف التجارية"
إن حاجيات التجارة الدولية تفرض التعامل المرن مع مختلف الظواهر المستجدة والتي يخلقها مجتمع التجارة الدولية الذي يقوم علي أساس الإرادة الحرة للإطراف ، ولعل ذيوع مصطلح العقود الطليقة ( مع تحفظنا تجاه أطلاق تعبير الطليق لان هذه الصيغة مبالغ فيها ) التي يكون الحسم فيها- عند النزاع – لإرادة الأطراف في اغلب الأحيان .
من كل ما سبق يمكن القول بان كل المعايير السابقة بما فيها محاولة التوفيق بالمزج بين المعيار القانوني والاقتصادي ، وان كانت مهمة؛ ويذكر لها إسهامها في معالجة العديد من جوانب الموضوع ، فان تعميق البحث في الموضوع يعد أمرا مشوقا وخصبا لأن الحسم فيه - لأي من الاتجاهات السابقة- لا يبدوا مطلقا وإنما نسبي ويقتضي معالجة كل حالة علي حدة ، ، ذالك أن تعدد وتجدد أدوات وأنماط العقود أصبح معه من غير الملائم تصنيفها ضمن العقود التقليدية المعهودة لأننا نجد علي المستوى العملي أن الاتفاقيات الدولية وتوصيات معهد روما لتوحيد القانون الخاص وعمل اللجان الدولية المتخصصة وكذالك الاجتهادات القضائية كلها أجلت دور العادات والأعراف التجارية علي حساب التشريع وهو ما يجعل القضاء مجبرا على مسايرة هذا النهج الذي تم تكريسه حتى في التشريعات الداخلية ، إذ نجد مثلا في المادة 2 من مدونة التجارة المغربية النص علي انه " يفصل في المسائل التجارية بمقتضى عادات وأعراف التجارة وبمقتضي القانون المدني، ما لم تتعرض قواعده مع مع المبادئ الأساسية للقانون التجاري" ولتقريب مفهوم العقد الدولي من خلال كل ما سبق فانه يمكن القول بان العقد الدولي هو مزيج من العناصر القانونية والمؤشرات الاقتصادية والأدوات الفنية المرتبطة بميدان التجارة الدولية الذي هو ميدان متحرك مما يجعل كل مفاهيمه نسبية ودائمة التشكل "
ولكي تكون الدراسة ذات جدوى فإننا سنعضد الجانب النظري لدولية العقد بالآثار الناتجة عن إضفاء هذه الصفة والمتمثل في القانون الواجب التطبيق علي العقد الدولي ، مع الإشارة إلي أن كل عقد بدا يستقل بأحكامه الخاصة في مجال القانون الدولي الخاص باعتباره المنهج الأصلي لقانون التجارة الدولية .
المبحث الثاني : القانون الواجب التطبيق على العقد الدولي
إن مشكلة تنازع القوانين لا تثار في مجال عقود التجارة الداخلية، والتي بداهة تخضع للقانون الداخلي وهو ما يعطي للمتعاقدين العلم المسبق بالنظام القانوني الذي تم تعاقدهم على أساسه.
إلا أن الوضع يختلف بالنسبة للعقود الدولية، وذلك لارتباطها بأكثر من نظام قانوني واحد، مما يثير التساؤل حول القانون الواجب التطبيق بشأنها.
وبهدف دفع عجلة التجارة الدولية بين الأفراد باعتبارها وسيلة تبادل اقتصادي هائل عبر الحدود قامت كل دولة بوضع القواعد والأسس التي يستند ويتقيد بها القضاة العاملون على إقليمها لحسم ما يتعلق من مسائل الاختصاص التشريعي ، والاختصاص القضائي ، وتنفيذ الأحكام المتعلقة بالمنازعات الخاصة المترتبة عنها والمنطوية على عنصر أجنبي وهي قواعد الإسناد .
وتقوم قاعدة الإسناد على ثلاثة عناصر هي:
- القانون المسند إليه: أي القانون الذي تحيل إليه قاعدة الإسناد لحكم النزاع .
- موضوع قاعدة الإسناد: أي الوصف الذي تسبغه على المسألة المطروحة لتطبيق قاعدة الإسناد لاحقا.
- ضابط الإسناد وهو الركيزة الأساسية في تعيين القانون الواجب التطبيق.
(مثال قاعدة الإسناد التي تقضي بإسناد فكرة الالتزامات التعاقدية إلى قانون الإرادة ) فالقانون المسند إليه هو القانون الذي تم تحديده ضمنيا أو صراحة ، وموضوع قاعدة الإسناد هو الالتزامات التعاقدية ، وضابط الإسناد هو الإرادة ويقوم قاضي النزاع بتطبيق هذه القواعد، المتصفة بأنها قاعدة مزدوجة أي توضح حالات تطبيق القانون الوطني وحالات تطبيق القانون الأجنبي، فالقاعدة التي تقضي بتطبيق قانون موقع العقار ستطبق القانون المغربي إذا كان موقع العقار في المغرب ، ونفس القاعدة ستؤدي إلى تطبيق القانون الفرنسي إذا كان موقع العقار في فرنسا ، كما توصف بأنها قاعدة غير مباشرة، أي أنها لا تتضمن حلا مباشرا ، للنزاع ، وإنما تشير إلى القانون الذي يتولى حل النزاع ما لم تكن دولته طرفا في اتفاقية دولية تنظم قواعد نص النزاع .
المطلب الأول: معايير تحديد قانون العقد الدولي
إن إعمال قاعدة من قواعد الإسناد ومن أجل تحديد القانون الذي سيطبق على العقد الدولي تخضع لعدة محددات وهذا ما سنتناوله بتفصيل.
الفقرة الأولى: خضوع العقد الدولي لقانون الإرادة
الأصل في عقود التجارة الدولية هو خضوعها لقانون الإرادة أي للقانون الذي تشير به إرادة المتعاقدين.
ولقد استقرت معظم النظم القانونية على مبدأ حرية طرفي العقد في اختيار القانون أو النظام القانوني الذي يحكم العقد المبرم بينهما، ويعد هذا المبدأ في ذاته قاعدة من قواعد تنازع القوانين . وفقا لما ذهب إليه المشرع المغربي في الفصل 13 من الظهير المنظم للوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب عندما نص على ما يلي:" تعين الشروط الجوهرية للعقود وآثارها بمقتضى القانون الذي قصد الأطراف صراحة أو ضمن الخضوع له.
وإسناد الأفضلية للقانون الذي يختاره المتعاقدون هو في إطار القانون الدولي الخاص تطبيق لمبدأ سلطان الإرادة الذي يؤكده في إطار القانون الداخلي الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص :" الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها ، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون .
ويستوي في إرادة المتعاقدين أن يعبر عنها بشكل صريح أو ضمني في النزاع من استنباط إرادة المتعاقدين الضمنية ، بالرجوع للغة التي حرر بها العقد والعملة التي اتفق على استخدامها في الوفاء ، أو أية مؤشرات يرتئيها القاضي وقد استقر فقه القانون الدولي الخاص الغالب على أن تطبيق قانون الإرادة على هذا النحو يقتصر على الجانب الموضوعي للعقد أما شكل العقد فيخضع لبلد الإبرام.
وبهذه المثابة ينطبق قانون الإرادة في شأن ما يتعلق بتكوين العقد وشروط انعقاده الموضوعية مثل التراضي والمحل والسبب، كما ينطبق هذا القانون أيضا على آثار العقد ، سواء تعلقت هذه الآثار بالأشخاص أو بالموضوع ، وبصفة خاصة على ما يرتبه من التزامات متبادلة بين أطرافه وجزاء مخالفة هذه الالتزامات وما تثيره هذه المخالفة من مسؤولية عقدية .
وإذا كان قانون الإرادة هو الذي يحكم وفقا للرأي الراجح تنفيذ الالتزامات المتولدة عن العقد، فإن هذا القانون هو الذي يسري أيضا على أسباب انقضاء الالتزامات العقدية مع ملاحظة ما قد يثيره تقادم هذه الالتزامات من خلاف فقهي حول مدى اعتبار هذا التقادم مسألة موضوعية تخضع لقانون الإرادة أو مسألة إجرائية يحكمها قانون القاضي .
ولئن كان تطبيق قانون الإرادة على تكوين العقد من حيث الموضوع ، وكذلك على آثاره وانقضائه هو ما يميل إليه غالبية الشراح كفالة لوحدة القانون الواجب التطبيق في هذا الشأن ، فإن جانب من الفقه قد أجاز مع ذلك تجزئة عناصر العقد وإخضاع كل منها لقانون مختلف كإخضاع تكوين العقد لقانون بلد الإبرام بحيث يقتصر تطبيق قانون الإرادة على ما يرتبه العقد من آثار بل إن الفقه الحديث قد خول لإرادة المتعاقدين القدرة على اختيار أكثر من قانون لحكم الرابطة العقدية .
وأياما كان الأمر، فإن اتجاه الفقه الغالب نحو وحدة القانون الواجب التطبيق على العقد لم يمنع هذا الاتجاه من استبعاد مسألتين من مجال قانون الإرادة وهما أهلية التعاقد وشكل العقد.
فالأهلية وإن كانت شرطا لصحة التعاقد من حيث الموضوع إلا أن الفقه الغالب قد اتجه مع ذلك إلى إخضاعها للقانون الشخصي للمتعاقد ، وسواء كان هذا القانون هو قانون الجنسية أو قانون الموطن ، وذلك على أساس أن الغرض الذي تهدف إليه أحكام الأهلية هو حماية الشخص نفسه ولو كان التصرف الذي يباشره من التصرفات المالية .
أما شكل العقد فقد استقر الاتجاه الغالب على إسناده اختياريا إما لقانون العقد أو لقانون بلد الإبرام، وذلك تيسيرا على المتعاملين ورعاية للاعتبارات العملية التي تقتضيها التجارة الدولية.
وتجدر الإشارة إلى أن صعوبة تحديد مكان إبرام العقد بوصفه أحد ضوابط الإسناد الاختيارية في مسائل الشكل في الفرض الخاص بالتعاقد بين غائبين هي التي دفعت بالتشريع السويسري الجديد للقانون الدولي الخاص الصادر في 18 ديسمبر 1987 على النص في الفقرة الثانية من المادة 124 على أنه إذا كان العقد قد أبرم بين شخصين يوجد كل منهما في دولة مختلفة فإنه يكون صحيحا من حيث الشكل إذا توافرت فيه الشروط التي يتطلبها قانون أي من الدولتين وعلى خلاف الاتجاه الفقهي السائد في إسناد العقد الدولي لقانون الإرادة الصريحة أو الضمنية في العقد ، فقد اختلفت التيارات الفقهية عند غياب هذا الاتفاق في تقرير القانون الذي يحكم العقد، والذي يقرره القاضي يعد تركيز الرابطة العقدية ووزن مراكز الثقل فيها ما لم يكن المشرع قد حددها مسبقا بضوابط إسناد في اتجاهين : الأول صوب الإسناد الجامد للرابطة العقدية والثاني صوب الإسناد المرن للرابطة العقدية وهو ما سنتناوله في الفقرة الثانية :
الفقرة الثانية : الإسناد الجامد والإسناد المرن للرابطة العقدية
ظل إسناد العلاقة العقدية إلى قانون دولة الإبرام أو دولة التنفيذ قائما في حالات سكوت المتعاقدين عن الاختيار الصريح أو الضمني لقانون العقد بوصفه إسناد معبرا عن الصلة الوثيقة التي تربط العقد بقانون دولة إبرامه أو دولة تنفيذه ، وهذا ما يسمى بالإسناد الجامد أو المسبق للرابطة العقدية .
إلا أن الاتجاهات الحديثة في القانون الدولي الخاص قد هجرت فكرة الإسناد الجامد للرابطة العقدية مفضلة اتخاذ مواقف أكثر مرونة ، إما استجابة للطبيعة الذاتية للعقد كما هو الشأن في بعض التشريعات مثل التشريع السويسري الصادر عام 1987 ، وكذلك اتفاقية روما لسنة 1985 ، أو لظروف التعاقد وملابساته في كل حالة على حدة كما انتهى إلى ذلك القضاء الفرنسي متأثرا بصفة خاصة بفقه الأستاذ " باتيفول" .
أولا : الإسناد الجامد للرابطة العقدية
يكفل التحديد المسبق للقانون الذي يحكم العقد – ما يراه المشرع أكثر صلة بالعقود الدولية عند سكوت الإرادة عن اختيار العقد صراحة أو ضمنا – الأمان للمتعاقدين ، لمعرفتهم المسبقة بالقانون الذي سيحكم العقد عند سكوتهم عن اختياره من ناحية ، ويكفل استقرار التجارة الدولية من ناحية أخرى .
ويقصد بالإسناد الجامد أقرب القوانين صلة بالرابطة العقدية ، وفقا لما يراه المشرع مثل جنسية أو موطن الأطراف ، أو قانون بلد إبرام العقد أو بلد تنفيذه ، وهو بذلك يتجاهل الطبيعة الذاتية للعلاقة العقدية المطروحة ولظروف التعاقد، وهو ما يتعارض بالنتيجة مع الرابطة الأوثق والقانون الواجب التطبيق في شأنها .
والملاحظ أن أكثر التعابير شيوعا كأساس لهذا الإسناد الجامد للعقد الدولي هما معيار بلد الإبرام ومعيار بلد التنفيذ .
أ-إسناد العقد لقانون بلد الإبرام :
تعطي أحكام القضاء أهمية خاصة لهذا المؤشر في الحالة التي يكون فيها تنفيذ العقد في نفس مكان انعقاده، حيث يخضع تكوين وصحة العقد لقانون مكان انعقاده.
ويعلل أصحاب هذا الاتجاه في الإسناد لقانون إبرام العقد بأنه نميل الصلة الأقوى التي تربط العقد بمحل ميلاده الأول ، كما أنه القانون الأنسب في رجوع طرفي العقد إليه للتأكد من سلامة الشروط التي ينوون إدراجها في العقد من الناحية القانونية ، مع ضمانه لوحدة القانون الواجب التطبيق على الرابطة العقدية .
وقد اختلفت التشريعات التي أخذت بهذه القاعدة حول موقع الأفضلية الممنوحة لقانون بلد الإبرام في حالة سكوت المتعاقدين عن اختيار قانون العقد صراحة أو ضمنا ، وهكذا مثلا نجد المشرع المصري قد منح لقانون دولة إبرام العقد الموقع الثاني في الترتيب بعد قانون الموطن المشترك للمتعاقدين إن اتحدا موطنا ، وهي نفس الأفضلية التي منحها التشريع الايطالي لهذا القانون بعد قانون الجنسية المشتركة للمتعاقدين ، بينما فضل القانون الاسباني تخويل قانون بلد الإبرام موقعا ثالثا في الترتيب بعد كل من قانون الجنسية المشتركة وقانون محل إقامتهم المشتركة ، وهي نفس الأفضلية التي منحها المشرع المغربي لهذا القانون .
وللإشارة فهناك حكم صادر عن محكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 1923 وأيدته محكمة النقض الفرنسية في حكم مؤرخ في 14 نونبر 1926 ، بعد أن صرحت المحكمة بان قبول كمبيالة وتظهيرها هما تصرفان قانونيان متميزان يمكن أن يخضع كل منهما لقانون مختلف عن القانون الذي يخضع له الآخر ، أضافت أنه وقت قبول كمبيالة في المغرب وتظهيرها في بريطانيا العظمى فإن هذا التظهير يخضع للقانون البريطاني ، أما تعين مكان إبرام العقد حينما لا يقع الإيجاب والقبول في مكان واحد فيجب أن يقع طبقا لقانون القاضي أي القانون المغربي ، لقد أكدت محكمة النقض الفرنسية في حكم لها صادر بتاريخ 31 مايو 1932 ، إسناد العقد لقانون بلد الإبرام إذا كان هذا البلد هو الذي سيتم فيه تنفيذ العقد.
وما نلاحظ على هذا الحكم على جانب بعض الفقه أنه لم يبين الحل الواجب الإتباع فيما لو أبرم العقد في دولة تختلف عن دولة التنفيذ.
ومع ذلك فإنه يبدو لنا مع الفقه الغالب أن الحجج السابقة ، والتي ساقها الرأي المؤيد لتطبيق قانون بلد الإبرام ، لا تقوم على أساس صحيح على اعتبار أن بلد الإبرام وإن كان هو الميلاد الأصلي للعقد ، إلا أنه قد لا يعبر بالضرورة عن الصلة لأوثق بموضوع العقد.
إذ يلاحظ من جهة أن مكان إبرام العقد قد يتحدد بناءا على ظروف عارضة لا تكفي لقيام الصلة المتطلبة بين الرابطة العقدية والقانون الذي يحكمها فالعقود التجارية تبرم عادة في مواقع تجارية لا تعدو أن تكون ـأماكن للقاء المتعاملين ولا تتركز فيها في الغالب مصالحهم الأساسية ، كما قد يتحدد مكان الإبرام كذلك نتيجة الصدفة أو نظرا لاعتبارات تمليها ظروف الرحلة ، كما قد يكون لقاء المتعاقدين في مكان لا شأن له بالتعاقد ، وبعد ذلك تأتيهم فكرة إبرام العقد ويعدو واضحا أن محل الإبرام يقوم في كافة الحالات التي ذكرناها على محض الصدفة وهذه الأخيرة لا تصلح أن تكون أساسا للإسناد.
ومن جهة أخرى فاليوم مع تبني أغلب النظم القانونية لقوانين تنظم المعاملات الالكترونية بما فيها المشرع المغربي الذي تبنى قانون 05.53 المنظم لتبادل المعطيات القانونية إلكترونيا أصبحت أغلب الصفقات تتم من خلال الاتصالات، الفاكس وعن طريق شبكة الإنترنيت ، وهو ما تثار معه صعوبة تحديد محل إبرام العقد، هل هو دولة إرسال الإيجاب أو دولة محل القبول أو الدولة التي علم فيها الموجب بالقبول .
ولهذا يفضل جانب آخر من الشراح إسناد العقد لقانون بلد التنفيذ.
ب-إسناد العقد لبلد التنفيذ :
إن أول من نبه إلى أهمية إسناد العقود الدولية لقانون دولة التنفيذ هو الأستاذ الألماني الكبير سفيني، باعتبار أن العلاقة التعاقدية ترتب أثارها في هذه الدولة.
ولقد اتجهت أحكام القضاء الألماني بصفة خاصة ، وبعض أحكام القضاء الفرنسي الحديث إلى تطبيق قانون دولة التنفيذ عند سكوت الإرادة عن الاختيار الصريح لقانون العقد على أساس أن إرادة المتعاقدين اتجهت إلى ذلك،بل إن هناك أحكام للقضاء الفرنسي قد اتجهت إلى تطبيق قانون دولة التنفيذ على الرابطة العقدية بصرف النظر عن إرادة المتعاقدين في ذلك .
ويقوم الإسناد إلى قانون دولة التنفيذ من جهة، على أساس أن مصالح المتعاقدين والغير تتركز ماديا في هذه الدولة.
ومن جهة أخرى فإن هذا الإسناد هو الذي يتفق أيضا مع مصالح المتعاقدين فاهتمامهم موجه منذ البداية إلى دولة تنفيذ العقد التي ستحقق فيها الغاية من التعاقد ففي هذه الدولة سيجني هؤلاء ثمار تعاقدهم ، وفيها أيضا قد تتحقق المسؤولية عن عدم التنفيذ.
وأخيرا فإن كان من العسير وفقا للرأي الراجح أن تخضع إجراءات تنفيذ العقد لغير قانون دولة التنفيذ فان تطبيق قانون هذه الدولة على الرابطة التعاقدية في مجموعها سوف يتلافى التعارض المتصور في الأحكام الواجبة التطبيق ويكفل على هذا النحو وحدة العقد وانسجامه . ويثار التساؤل في ما لو تعددت أماكن تنفيذ الالتزام كأن يكون تنفيذ العقد في أكثر من دولة, فأي القوانين سيحكم سلسلة أماكن التنفيذ وقد يذهب رأي الى الاعتداد بأكثر الأماكن ارتباطا بالعقد وهو ما يمثل خروجا وانتهاكا للمعيار الذي استند إليه أصحابه منذ البداية , فكيف تتوجه اهتمامات وتطلعات المتعاقدين لهذا البلد بالذات إن تساوت المصالح.
كما قد يذهب رأي آخر إلى تجزئة العقد وإخضاع كل جزء ينفذ منه لقانون تلك الدولة, وهو ما لا يتماشى مع التجارة الدولية وتيسير أعمالها حيث سنحمل المتعاقدين تبعية الاطلاع على سائر تلك القوانين المتعلقة بموضوع العقد من ناحية واحتمالية تعارض قانون أي من الدول ومصلحة المتعاقدين من ناحية أخرى ، وبذلك نرى في اعتماد معيار مكان إبرام العقد فائدة أكبر للمتعاقدين لما يوفره لهما من الأمان القانوني الذي يوفر الاطمئنان في نفسيهما .
كما يدق الأمر عند عدم تحديد مكان التنفيذ بصفة مسبقة ، حيث يتعذر الإسناد في هذا الفرض ، ولا يصح الاعتراض على ذلك بالقول بان هذه المسألة تتوقف على حكم القانون ، هل يكون الوفاء في محل إقامة الدائن أو محل إقامة المدين ، ذلك أن الإجابة على هذا التساؤل تتوقف على معرفة القانون الذي يحكم العقد و الذي يبين من هو المدين ومن هو الدائن بينما أن تحديد هذا القانون غير متصور قبل الإجابة على التساؤل السابق، وهو ما يوقعنا في حلقة مفرغة ، بل إنه من المتصور دائما أن يغير المتعاقدون محل إقامتهم بعد إبرام العقد.
ولا يجدي في حل هذه المشكلة الانتظار حتى يتم تنفيذ العقد بالفعل ، حيث يسهل إسناده حينئذ لقانون الدولة التي تم فيها التنفيذ، ذلك أنه من المتصور دائما أن يثار النزاع بين الطرفين قبل البدء في التنفيذ وهو ما سيخل بالأمان القانوني المتطلب للمتعاقدين ، الذين يتعذر عليهم على هذا النحو العلم المسبق بقانون العقد وخاصة فيما يتعلق بالشروط التي يتطلبها هذا القانون لسلامة انعقاد الرابطة العقدية .
وفي الأخير نفضل الإسناد المسبق للرابطة العقدية لقانون بلد التنفيذ عن إسنادها لقانون بلد الإبرام ، ذلك أن الحل الأول هو الذي يعبر على نحو أصدق على حقيقة مركز الثقل في هذه الرابطة ، فقانون بلد التنفيذ يعد أوثق بالرابطة العقدية من قانون بلد الإبرام.
غير أنه ونظرا للأسباب التي ذكرناها سابقا فإن كل من الفقه الحديث والقضاء المعاصر تبنى الإسناد المرن للرابطة العقدية.
ثانيا : الإسناد المرن للرابطة العقدية
يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى تحديد القانون الأوثق صلة بالرابطة العقدية بناءا على ضوابط مرنة في حالة سكوت إرادة المتعاقدين عن الإشارة إلى القانون الواجب التطبيق على عقدهم الدولي.
وتهدف هذه الروابط المرنة إلى تركيز الرابطة العقدية في ضوء ظروف التعاقد وملابساته في كل حالة على حدة وصولا لتطبيق القانون الذي يشكل مركز الثقل في الرابطة العقدية ، وبالتالي لا تعتمد على محددات ثابتة للتطبيق على كافة العقود الدولية، وهو ما يختلف عن الإسناد الجامد .
والأصل لدى الأستاذ باتفيول أن مركز النقل في الرابطة العقدية يتحدد بالمكان الذي تتركز فيه المصالح الجوهرية للمتعاقدين ، وهو عادة المكان الذي يتم فيه تنفيذ العقد ومع ذلك فقد يصعب الكشف عن هذا المركز بصفة مسبقة نظرا لتعدد محال التنفيذ أو تعذر تحديدها وهو ما دفع الأستاذ الفرنسي إلى التأكيد على ضرورة أن يتم التركيز المكاني للرابطة العقدية في ضوء ظروف التعاقد وأحداثه الخارجية في كل حالة على حدة وهي ظروف تتوقف على إرادة المتعاقدين ، التي لا تقوى في نظر الأستاذ باتيفول على اختيار قانون العقد، وإنما هي تقوم فقط بإبداء رغبتها في تركيز الرابطة العقدية في مكان معين ، وهكذا ينحصر دور إرادة المتعاقدين ، ولو كانت صريحة ، في تركيز العقد في دولة معينة ، وللقاضي أن يستخلص من ذلك خضوع الرابطة العقدية لقانون هذه الدولة ، أو تصحيح اختيار المتعاقدين فيما لو تبين أن القانون المختار لا يعبر عن مركز الثقل في هذه الرابطة .
وهذا ما يجعل في نظرنا صعوبة التسليم بنظرية باتيفول خصوصا في حالة اختيار المتعاقدين صراحة لقانون العقد، لأن عدم التفاف القضاء لهذا الاختيار بدعوى أنه مجرد رغبة في تركيز العقد في مكان معين فيما يناهض حقيقة ما أراده المتعاقدون، مما يشكل خرقا لقاعدة الإسناد المقررة بنصوص تشريعية ، وكذا يصعب في ضوء فكرة التركيز الموضوعي للرابطة العقدية وفقا لظروف التعاقد وملابساته أن يعلم المتعاقدون مسبقا بالقانون الواجب التطبيق على العقد ، نظرا لتوقف القانون على ظروف التعاقد في كل حالة على حدة ولعل هذا هو السبب في اتجاه بعض التشريعات إلى اعتناق نظرية الأداء المميز عند إسناد العقود ومؤداها إسناد العقد للمكان الذي تم فيه تنفيذ الالتزام الرئيسي المتميز عن غيره من الالتزامات التي فرضها العقد .
وما يلاحظ على نظرية الأداء المميز أنها قد كفلت للمتعاقدين ضمان القانون دون أن تفقد مع ذلك المرونة المتطلبة في الإسناد طبيعة العقد محل النزاع ، فالتركيز الموضوعي يتم وفقا لهذه النظرية على أساس الطبيعة الذاتية للعقد بغض النظر عن آراء المتعاقدين كما قد تشير إليها ظروف التعاقد وملابساته .
وإذ أن بإمكان إرادة الأطراف الاتفاق صراحة أو ضمنا على القانون الواجب التطبيق على عقدهم فان الحبل لم يترك على الغارب لهذه الإرادة في ذلك نظرا لكون المشرع المغربي قد وضع عراقيل تحول دون ذلك لحفظ وصيانة النظام العام وعدم التحايل عليه.
المطلب الثاني: تعطيل قواعد الإسناد
.
لقد اجمع فقه القانون الدولي الخاص على وجود حالتين يتعين معهما على القاضي الوطني استبعاد القانون الأجنبي الذي عينته قاعدة الإسناد وهما إما تعارض القانون الأجنبي واجب التطبيق مع الأسس التي يقوم عليها قانون القاضي وهو ما يعرف بالنظام العام، أو أن يرد استبعاد القانون الأجنبي إلى سلوك طرفي العلاقة التعاقدية كان يأتي تحديد القانون الأجنبي بناءا على تحايلهما على قاعدة الإسناد الوطنية، وهو ما يعرف بالدفع بالغش نحو القانون.
فقرة أولى: الدفع بالنظام العام.
ترقى فكرة النظام العام في كل المجالين المحلي والدولي إلى حماية النظام القانوني الوطني، وتدعيم قوانين الدولة الأساسية مع اختلاف مفهوميهما ومجال كل منهما عن الآخر.
حيث يقصد بالنظام العام الداخلي القواعد الآمرة التي لايسمح للأفراد بالاتفاق على مخالفتها وإبطال أي اتفاق يتعارض معها . أما على مستوى القانون الدولي الخاص فيقتصر دورها على منع تطبيق القانون الدولي الذي أشارت قاعدة الإسناد إلى تطبيقه، إذا كان من شان الإسناد إلى حكمه الإخلال والمساس بالأسس التي يقوم عليها نظام المجتمع الوطني كأن تقضي قاعدة الإسناد بتطبيق قانون الجنسية في مسائل الزواج باعتباره القانون الأكثر عدالة تحقيقا لمصالح الزوجين، ثم يتضح للقاضي الوطني تعارض القانون الأجنبي ( المسند إليه) الذي يسمح مثلا بزواج الخال من بنت الأخت وهو ما يخالف الأسس التي تقوم عليها دولة القاضي وبالنتيجة يتم استبعاد القانون الأجنبي المناهض للقيم التي يقوم عليها المجتمع الوطني لخدشه الحياء العام.
فمن حيث التعاقد يلاحظ من جهة أن الفصل 13 من قانون الوضعية المدنية للأجانب نص في الدرجة الأولى على مبدأ سلطان الإرادة،" يعين الشروط الجوهرية للعقود وأثارها بمقتضى القانون الذي قصد الأطراف صراحة أو ضمنا الخضوع له" تعين في الدرجة الثانية قوانين أخرى أجنبية يمكن تطبيقها لكنه يلاحظ من جهة أخرى أن قانون الالتزامات والعقود و بعض القوانين الصادرة فيما بعد كقوانين الأكرية تضمنت مجموعة من القواعد الناهية فإذا أدى تطبيق القانون الأجنبي الذي يعينه الفصل 13 من قانون وضعية الأجانب إلى مخالفة تلك القواعد الناهية وجب استبعاد ذلك القانون الأجنبي وهذا ما قررته محكمة النقض الفرنسية في عدة قضايا مرفوعة إليها من المحاكم العصرية في المغرب نذكر منها الأحكام الآتية:
- حكم 21 ابريل 1933 بشان عقد اتفق فيه المتعاقدين على الأداء بالنقد الانجليزي (إستنادا على مبدأ الحرية المقررة في الفصل 13 المذكور سابقا ) الذي اعتبر هذا العقد مخالف للفصل 2 من ظهير 21 يونيو 1920 الذي أعطى أوراق البنك المخزني صفة الرواج الإجباري.
- حكم 2 يوليوز 1929 الذي قضى بأنه لا يجوز للمتعاقدين أن يحيلا على الفصل 1592 من القانون المدني الفرنسي( الذي يسمح لهما بإسناد أمر تعيين الثمن إلى حكم) بحجة أن تطبيق هذا القانون يخالف الفصل 477 من ق ل ع الذي ينص على انه لا يجوز أن يترك لشخص ثالث أمر تعيين الثمن.
ومن خلال ما سبق يتضح بان الدفع بالنظام العام هو وسيلة لحماية المجتمع من تطبيق بعض القوانين الأجنبية أمام محاكمها لكونها مخالفة للأسس القانونية الرئيسية السائدة في المجتمع وكذلك بالرغم من أن هذا القانون الأجنبي قد تبث له الاختصاص أصلا بموجب قاعدة الإسناد الوطنية بحكم المسالة المطروحة . ويترتب على الدفع بالنظام العام أثران هما:
أولا : الأثر السلبي
( استبعاد القانون الأجنبي)
يترتب على أعمال الدفع بالنظام العام استبعاد أحكام القانون الأجنبي المتعارض مع النظام الوطني لدولة القاضي لما يكتنف القانون الأجنبي من تعارض مع المبادئ التي يقوم عليها مجتمع دولة القاضي .
ويتحقق الأثر السلبي للنظام العام في الحالة التي يكتفي فيها القاضي باستبعاد القانون المسند إليه دون إحلال قانون آخر محله’ مثال ذلك.ليس هناك ما يمنع في القانون الأمريكي بالاعتراف بابن الزنا, بينما لايعترف بمثل هذا الحق في القانون المغربي لأنه مخالف للنظام العام فإذا تقرر تطبيق القانون الأمريكي في المغرب بهذا الخصوص, يكتفي القاضي المغربي برفض تطبيق القانون الأمريكي دون إحلال القانون المغربي محله.
و لقد اختلف الفقه حول المدى الذي يستبعد معه أحكام القانون الأجنبي المناهض للنظام العام في دولة القاضي،حيث ذهب اتجاه إلى وجوب استبعاد القانون الأجنبي المتعارض مع القانون الوطني برمته،لما قد يترتب عليه الإضرار من تشويه للقانون،و تطبيقه في غير الأحوال التي شرع لأجلها،في حين ذهب الاتجاه الفقهي الغالب إلى استبعاد الجزء المخالف للنظام العام الوطني دون الأجزاء الأخرى ذلك أن الغاية من النظام العام هي حماية الأسس التي يستند و يقوم عليها المجتمع،دون أدنى عداء للقانون الأجنبي، و عليه فلا يستبعد إلا القاعدة التي يتحقق معها هذا التعارض،وهو القدر الذي يتحقق معه حماية القانون الوطني.
و نحن نؤيد رأي الفقه الغالب القاضي باستبعاد الجزء المخالف للنظام العام فقط، دون الأجزاء الأخرى، لما في ذالك من عدم خلق للعداوة مع القانون الأجنبي،وتحقيق الغاية المتوخاة من إعمال الدفع بالنظام العام.
ثانيا: الأثر الايجابي(تطبيق قانون القاضي)
يتأتى هذا الأثر كنتيجة طبيعية للأثر السلبي في استبعاد القانون الأجنبي،اذ يجب في هذه الحالة إحلال قانون آخر مكانه بغية سد الفراغ التشريعي المتسبب عن الأثر السلبي للدفع بالنظام العام و ما يترتب عليه في حال إغفال ذلك من إنكار للعدالة و ضياع للحقوق.
و بالرجوع لموقف المشرع المغربي،يرى جانب من الفقه أنه عند استبعاد القانون الأجنبي يجب أن تطبق القاعدة المنصوص عليها في الفصل الثالث من قانون الجنسية أي تطبيق القانون العبري على اليهود و تطبيق مدونة الأحوال الشخصية(مدونة الأسرة حاليا) على غير اليهود مع مراعاة الاستثناءات المنصوص عليها في الفصل المذكور بتبيان من ليسو مسلمين، و كذالك بالنسبة للأشخاص الذين يصرحون بأن لا دين لهم.
أما المشرعين الأردني و المصري فقد اكتفيا بإبراز الأثر السلبي للنظام العام دون أن يحددا القانون الذي يحكم العقد عوضا عن القانون الأجنبي الذي جرى استبعاده و الذي دفع بعض الاتجاهات الفقهية و القضائية إلى القول بتطبيق قانون دولة القاضي و ذلك بإحلال قانون دولة القاضي محل القانون الأجنبي الذي يتم إقصاؤه .
و سعيا وراء استقرار المجتمع الدولي و عملا على قطع الأثر الذي ترتب على إعمال الدفع بالنظام العام، أن ظهر ما يسمى بالأثر المخفف للدفع بالنظام العام و الذي يعمل به في الحالات التي يراد بها الاحتجاج أو ترتيب آثار قانونية على مركز قانوني ثم نشوؤه و اكتسابه خارج دولة القاضي و التي لا يترتب عليها ذات الأثر فيما لو نشأت في ذات دولة القاضي،أي تقوم على التمييز بين حالتين إنشاء الحق في بلد القاضي،و التمسك به في بلد القاضي بحق اكتسب أو نشأ في الخارج،ففي الحالة الأولى يقوم القاضي ببحث مشروعية إنشاء الحق وفقا لقانونه،و مدى توافقه مع النظام العام من عدمه،بينما يقوم في الحالة الثانية ببحث مدى إمكانية التمسك بآثار الحق في دولته و مدى مساس أثر الحق بالنظام العام من عدمه.
إذا فقاعدة استبعاد القانون الأجنبي الذي تعينه قاعدة الإسناد و تعويضه بالقانون الوطني،تمسكا بفكرة الدفع بالنظام العام،لا تصح إلا بصدد العلاقة التي تنشأ في بلد القاضي مثلا: كان إذا تقدم الزوجان الأجنبيان في فرنسا بطلب الطلاق المبني على التراضي استنادا على مقتضيات قانونهما الوطني الذي يجيز هذا النوع من الطلاق ردت المحكمة الفرنسية طلبهما لأن تطبيق قانونهما الوطني يتعارض إذ ذاك في هذه الحالة مع النظام العام الفرنسي.أما بعد أن أصبح القانون الفرنسي يجيز الطلاق بالتراضي أصبح القاضي يطبق القانون الأجنبي.لكنه كان اذا صدر حكم بطلاق هذين الزوجين في بلد أخرى و قام أحدهما بطلب التزوج في فرنسا مثبتا عدم ارتباطه برابطة الزوجية سمح له بإبرام الزواج، فيقال أن النظام العام لا يمنع من استعمال حق مكتسب في بلاد أجنبية وان كان لا يسمح باكتساب هذا الحق في الدولة نفسها.
فقرة ثانية: الدفع بالغش نحو القانون
يقصد بالتحايل على القانون استعمال الشخص بعض الوسائل المشروعة ظاهرا ليتمكن من انجاز أفعال قانونية لم يكن يسمح له بانجازها القانون المختص فمن ذلك تغيير الدين أو الموطن من أجل غرض معين.و كان هذا التغيير يقع كثيرا في الماضي حين كانت كثير من البلدان الأوروبية لا تجيز الطلاق، فيكسب الشخص جنسية دولة أخرى تجيزه ليتمكن من الحصول عليه.
و في تعريف آخر بأنه: الاستخدام الإرادي لقاعدة التنازع بهدف التهرب من الأحكام الآمرة للقانون الواجب التطبيق.
و لقد ظهرت هذه الفكرة لأول مرة بمناسبة قضية شهيرة تدعى قضية"ذي بوفورمون"وتتلخص وقائعها في أن سيدة بلجيكية الجنسية قد تزوجت من الأمير الفرنسي-ذي بوفورمون-واكتسبت الجنسية الفرنسية بناءا على الزواج منه،ثم حدث خلاف بينهما فأرادت الزوجة الطلاق منه بالرجوع إلى القانون الفرنسي نجده يتضمن إسناد يقضي بتطبيق القانون الفرنسي باعتباره قانون الزوج،وبما أن القانون الفرنسي لا يجيز الطلاق فقد تجنست بجنسية دويلة ألمانية يسمح لها قانونها بالطلاق و استطاعت بذلك أن تحصل على الطلاق لتتزوج بعد ذلك من أمير روماني يدعى-بيبسكو-وأقامت معه في فرنسا.حدث بعد ذلك أن رفع الزوج الأول دعوى أمام المحاكم الفرنسية طالب من خلالها اعتبار هذا الزواج باطلا استنادا إلى تجنس الزوجة بالجنسية الجديدة كان بهدف الغش و التحايل على القانون.فقضت محكمة النقض الفرنسية لفائدة الزوج مستندة على فكرة الغش،بحيث بدا لها أن التجنس لم يكن مقصودا لذاته و إنما كان وسيلة مشروعة بهدف التوصل إلى غرضها و هو إبرام زواج ثان و الدليل على ذلك أنها بمجرد طلاقها تزوجت من جديد .
لكن القاضي الذي تعرض عليه قضية ما لا يأخذ التحايل بعين الاعتبار إلا إذا كان المقصود منه التحايل على قانونه،أما إذا كان المقصود التحايل على قانون أجنبي فلا يهمه(مثلا:القاضي الفرنسي لم يكن يهمه أن يكون الاسباني الذي تجنس بالجنسية الفرنسية قصد التحايل على القانون الاسباني الذي لم يكن في الماضي يجيز الطلاق).
و لإعمال الدفع بالتحايل نحو القانون لابد من توافر شرطين هما:
أولا: الشرط المادي (تغير مادي في ضابط الإسناد)
يقصد بهذا الشرط: تغيير الظروف التي يتحدد على أساسها الضابط الذي تقوم عليه قاعدة الإسناد، و ما ينجم عنه من تغيير للقانون الواجب التطبيق على العلاقة،ويتحقق هذا التغيير في الظروف التي تلعب الإرادة فيها دورا جوهريا في تغيير ضابط الإسناد،مثل ضابط جنسية طرفي العلاقة أو موطنهما،وفقا للدولة المراد الخضوع لقانونها واعتدادهما بقانون الموطن أم بالجنسية،و ذلك في مسائل الأحوال الشخصية .
ثانيا:الشرط المعنوي(نية التحايل أو الغش نحو القانون)
تعد النية عاملا نفسيا مكانه العقل وتقيد اتجاه الفكر إلى إحداث أمر معين، و في اللحظة التي يعقبها عمل تنفيذي تخرج النية(القصد)من المجال النفسي إلى الحيز الاجتماعي الخارجي.
و في مجال الغش نحو القانون تتحقق النية في انبعاث النفس إلى الإفلات من القواعد القانونية الآمرة بوسائل قانونية .
فالشخص له الحق في تغيير جنسيته أو موطنه،و التي يترتب عليه تغيير القانون الواجب التطبيق،ولكن إذا اقترنت في هاتين الحالتين نية التحايل بضابط الإسناد الذي تم إعماله بقصد الإفلات من الخضوع لأحكام القانون الواجب التطبيق لقانون آخر،فان التحايل يتحقق في هذه الحالة.
إلا أن بعض الفقه و نظرا لكون النية أمر باطني يصعب على القاضي الوقوف عليها، ذهب إلى القول أن هذا الشرط متوفر دون البحث عنه.في حين ذهب الرأي الفقهي الغالب إلى ضرورة التيقن من توافر هذا الشرط ليتسنى التمسك بالدفع بالغش نحو القانون وفي سبيل ذلك يمكن استخلاص توافر هذا الشرط من قرائن الحال التي تجسدها الوقائع المادية مثل حالة التلازم الزمني بين تغيير ظروف العلاقة وإجراء التصرف المراد إخضاعه للقانون الجديد.
وقد اختلف الفقه فيما يخص الآثار التي تترتب على التمسك بالدفع بالتحايل نحو القانون،حيث أنه اتجه جانب إلى إبطال الوسيلة و النتيجة في حين اقتصر البعض الآخر على إبطال النتيجة دون الوسيلة وبدورنا نؤيد هذا الأخير و الذي يقضي بإبطال النتيجة دون الوسيلة لأن هذه الأخيرة لا تدخل ضمن صلاحيات القاضي.
وهناك شرط ثالث لم يتطرق له معظم شراح القانون الدولي الخاص نظرا لمنطقيته وهو شرط خضوع المتحايل لقانون جديد،عوضا عن القانون الذي يسعى المتعاقدون لاستبعاده،وهو شرط منطقي و طبيعي.
خاتمة
صفوة القول ومن خلال التحليل الذي قمنا به في هذا العرض يتضح أن الأخذ بأحد المعايير التقليدية لدولية العقد (سواء المعيار الاقتصادي أو القانوني ) لإضفاء الصفة الدولية علي العقد غير كاف ، وإنما لا بد من اجتماع المعيارين معا وتكاملهما للحكم علي العقد بالدولية ، كما أن خصوصيات التجارة الدولية التي يعد العقد ابرز أدواتها ، والتي مافتئت تتطور ، كلها أمور يتعين أخذها في الاعتبار عند البحث عن معيار شامل لدولية العقد
أما فيما يتعلق بحل إشكالية تنازع القوانين في عقود التجارة الدولية فقد اتضح بجلاء عجز قواعد الإسناد عن حلها، مما يكرس أزمة قانون العقد الدولي وهو ما يفرض
تكويع وتطوير هذه القواعد لكي تصبح قادرة علي مسايرة متطلبات التجارة الدولية، التي تتسم بالحركية والجدة والسرعة والمصالح المتضاربة
وهكذا تجلي العجز السابق بصورة واضحة في بعض نماذج للعقود الدولية، علي غرار عقود نقل التكنولوجيا و عقود التجارة الالكترونية.
وهو ما يقتضي من المشرع إتاحة الفرصة لأطراف العقد في اختيار الحلول المناسبة للنزاعات الناشئة بينهم حسب ظروف وملابسات كل عقد علي حدة، علي أن يقتصر القيد التشريعي علي المبادئ العامة التي يقوم عليها النظام الاقتصادي العام .
ليست هناك تعليقات